حكم الاستعانة بالكفار في قتال المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الاستعانة بغير المسلمين تعبيرٌ مجمل، فإن كانت الاستعانةُ بهم في جهاد مشروع في سبيل الله عز وجل ففيها تفصيل:
• فإن كانت بأموالهم، ولم تَشُبْها شائبةُ إذلال، أو ولاية منهم على الآخذ، ولم تكن ثمرةَ ركون من الآخذ إليهم، ولا بوسائل حَرَّمتها الشريعةُ على المسلمين- فلا بأس في ذلك ولا مأثم، فقد قبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم هدايا من غير المسلمين واستشفع في أموالهم(1).
• أما الاستعانةُ بغير المسلمين بأبدانهم في جهاد في سبيل الله فهي من مسائل الاختلاف، والجمهور على أنها كانت محظورةً ثم نُسخ الحظر، فيرخص في الاستعانة بهم عند الحاجة إلى ذلك، والأمن من بوائقهم.
ويتحقق ذلك إذا كان حكمُ الإسلام هو الغالبَ، وكان مع الإمام من القوة ما يتمكَّن به من إمضاء أحكامِ الإسلام عليهم، هذا مع اعتبار قواعد الضرورة عندما يتحقَّق مُوجِبُها، على أن تُقدَّر بقدرها، ويسعى في إزالتها، كما هو مقرر في الأصول.
أما الاستعانة بهم في قتال البغاة أو الخوارج من المسلمين فإن جمهورَ أهل العلم على منعه؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَسْلِيطُ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، حتى ذكر بعضُهم أنه لَا يَجُوزُ لِـمُسْتَحِقِّ قِصَاصٍ أَنْ يُوَكِّلَ كَافِرًا بِاسْتِيفَائِهِ، وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَّخِذَ جَلَّادًا كَافِرًا لِإِقَامَةِ الْـحُدُودِ عَلَى الْـمُسْلِمِينَ، مع اعتبار الضرورات الملجئة التي تُبيح من المحظور ما يلزم لدفعها.
قال القرافي من المالكية في قتال أهل البغي: «وَلَا يُسْتَعَانَ عَلَيْهِمْ بمُشرك وَلَا يُوادعهم عَلَى مَالٍ وَلَا تُنْصَبَ عَلَيْهِمُ الرَّعَّادَاتُ وَلَا تُحرق عَلَيْهِم المساكن وَلَا يقطع شَجَرُهُمْ»(2).
وقال النووي من الشافعية: «لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَيْهِمْ بِكُفَّارٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَسْلِيطُ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلِـهَذَا لَا يَجُوزُ لِـمُسْتَحِقِّ قِصَاصٍ أَنْ يُوَكِّلَ كَافِرًا بِاسْتِيفَائِهِ، وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَّخِذَ جَلَّادًا كَافِرًا لِإِقَامَةِ الْـحُدُودِ عَلَى الْـمُسْلِمِينَ»(3).
وقال ابن قدامة من الحنابلة: «ولا يستعين على قتالهم- أي البغاة- بالكفار بحالٍ، ولا بمن يرى قتلهم مدبرين»(4).
ومن أهل العلم من أجاز ذلك إذا دعت إليه الحاجة، وأمن الغدرَ من جانبهم، وبهذا أفتت هيئةُ كبار العلماء في بلاد الحرمين، بمناسبة فتنة الخليج الأولى، والمسألة في محلِّ الاجتهاد، وليست من مناطات التكفير، وإنما يتردَّد القولُ فيها بين صواب وخطأ، وراجحٍ ومرجوح، وليس بين كُفر وإيمان، وتوحيد وشرك.
والذي نراه هو المنعُ إلا عند الضرورة الملجئة، وقد تأمَّلت في أدلة المجيزين فوجدتها جميعًا في الاستعانة بغير المسلمين في قتال غيرِ المسلمين، ولم أجد فيها- فيما وقفت عليه منها- دليلًا مباشرًا في الاستعانة بهم على قتال بغاة المسلمين، فكأنهم قد قاسوا هذه على تلك، أو أعملوا قواعد الضرورة، وللضرورة حكمُها، ولكن لا ينبغي التوسُّع في ذلك، فقد كان التوسع في هذا الباب هو سببَ سقوطِ الأندلس وحكمِ ملوك الطوائف بها، فقد كان كلُّ حاكم يرى في خصمه باغيًا من البغاة، ويسوغ لنفسه الاستعانةَ بملوك النصارى عليه، حتى أجهز النصارى على الجميع في نهاية المطاف، وفي التاريخ عبرة لمن اعتبر.
وفرقٌ بين مناط الحاجة الماسَّة أو الضرورة الملجئة، الذي يرِدُ في مثله الترخُّص السابق وبين ما كان مردُّه إلى الحميَّة، وباعثُه المطامعَ والأهواء، فإن هذا الأخير هو الذي لا ينبغي أن يَختَلِف القولُ في منعه، وأدنى أحواله أن يكون في غاية الفسوق كما ذكر ابن حزم رحمه الله.
قال ابن حزم الأندلسي في «المحلى»: «وأما من حملته الحميَّة من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين، أو على أخذ أموالهم أو سبيهم، فإن كانت يدُه هي الغالبةَ وكان الكفار له كأتباع- فهو هالك في غاية الفسوق، ولا يكون بذلك كافرًا؛ لأنه لم يأتِ شيئًا أوجبَ به عليه كفرًا: قرآنٌ أو إجماعٌ، وإن كان حكمُ الكفار جاريًا عليه فهو بذلك كافرٌ، على ما ذكرنا، فإن كانا متساويين لا يجري حكمُ أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافرًا»(5). والله تعالى أعلى وأعلم.

_______________________
(1) فقد أخرج أحمد في «مسنده» (1/ 96) حديث (747) من حديث عليٍّ رضي الله عنه قال: أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقَبِلَ منه، وأهدى له قيصر فقَبِلَ منه، وأهدت له الملوك فقبل منهم.
(2) «الذخيرة» (9/307-313).
(3) «روضة الطالبين وعمدة المفتين» (10/ 60).
(4) «المغني» (9/7).
(5) «المحلى» (12/123-127).

تاريخ النشر : 31 ديسمبر, 2023
التصنيفات الموضوعية:   09 نواقض الإيمان.

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend