وسوسة الشيطان للعبد عن الذات الإلهية

أتمنى أن يتقبل الله حَجَّكم. بعد أن كنتُ أرتكب أشدَّ المعاصي، تبتُ إلى الله، وأحاول أن أتَّقِيَه ما استطعت، فبدأت تأتيني شبهات حول زواجي وفي أمور ديني، كادت تهلكني وأصابتني وساوس شديدة، ففوضت أمري إلى أرحم الراحمين، محسنًا الظن به، متيقنًا أنه سيرحم ويغفر ما دمت أريد العودة إليه.
فبدأت تأتيني إيحاءات خبيثة عن الله ، والله إن السماوات والأرض وكل الخلائق لتصعق لها، وأقعد أحيانًا أبكي وأقول: إلا أنت يا رب. ورغم أني قرأت عن الوساوس وعن حديث نبينا عليه أطيب الصلاة والسلام في هذا الشأن، إلا أنني أعود وأقول، لا يمكن أن يكون هذا قد حصل لبشر أو خطر على نفس أحدٍ أو تقبله نفس أحد.
يا شيخنا إني يتفطر قلبي خوفًا من الله ، وأحسُّ بالخزي الشديد من هاته الخبائث التي تأتيني في صلاتي، بل حتى حين أقرأ المعوذتين. ماذا لو كنت أجني ثمارَ ما ربيتُ عليه نفسي من المعاصي؟
إني أغبط الناس على ما هم فيه، بل إنني أصبحت أخافُ من سماع الدروس أو الخطب الدينية، لأنها حتما ستتحدث عن تقوى الله وعن شريعته وحدوده، وأنا لم ألتزم بشيء من هذا، فأحتقر نفسي أكثر وأكثر.
أكثر من هذا، حين أرى شخصًا ملتزمًا ومتبعًا لهدي نبينا عليه الصلاة والسلام وحريصًا على كلِّ أمر في دينه- أجد في نفسي حسدًا من ذلك، بل وكأني أبغضه وأتمنى لو أنه كان مثلي على المعصية، فأسارع بالدعاء له في نفسي، كي أُكفِّر عما خطر لي.
أرجو أن أجد في فتواكم البلسمَ والعلاج لحالتي، فإني أتعذب خوفًا واستحياءً من الله  أن يُواجهني ويعذِّبني بهذا الأمر الخطير العظيم، الذي لا يمكن أن يصدُر إلا عن كائن حقير دنيء، خبيث، نجس.
يا شيخنا، إني لم أعُد أستسيغ شيئًا في الدنيا، فأفتوني يرحمكم الله.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فاعلم يا عبد الله أنه «مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»(1).
لقد أتاك الشيطان يا بنيَّ من باب الشهوات، فلما أفلتَّ من شِراكِه، ومنَّ الله عليك بالتوبة أراد أن يطوقك من باب آخر، وهو باب الشبهات، وفي كلتا الحالتين هو العدو الذي تعبَّدك الله بعداوته {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6].
إن الذي حدَث معك يا بنيَّ قد حدث مع بعض أصحاب النبي ﷺ؛ فقد روى مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة  قال: جاء ناسٌ من أصحاب النَّبي ﷺ فسألوه: إنا نجدُ في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلَّم به؟ قال: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟». قالوا: نعم. قال: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»(2).
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: «فقوله ﷺ: «ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ» و «مَحْضُ الْإِيمَانِ»(3) معناه: استعظامُكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به، فضلًا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالًا محققًا وانتفت عنه الريبة والشكوك»(4).
وأنت يا بنيَّ ممن يستعظمون ذلك ويدافعونه، ويحتقرون أنفسهم من أجلِه، فهذه المدافعة والممانعة دليلٌ على صريح الإيمان، فلا تبتئس.
وإياك يا عبدَ الله أن تدعو على نفسك مخافةَ أن توافق ساعة إجابة، ولكن ادع الله أن يُذهب عنك كيدَ الشيطان، وأن يربط على قلبك، وأن يملأه هدى وتقى، وأن يهيِّء لك من أمرِك رشدًا، وربك واسع المغفرة، وله ألطاف خفية. واذكر قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وأذكر لك أمرًا لعله كالبشارة لك، لقد بعثني الله من الليل قبل الفجر بساعتين لكي انظر إلى البريد وأجيبك، وبيني وبينك آلاف الأميال، وفرق التوقيت بيننا سبعُ ساعات، أليس هذا من لُطف الله بك ومن رعايته لك؟! من ذا الذي بعثني من النوم في هذه الساعة لأُجيبك؟! أليس هو البرُّ الرحيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا؟! أما تكفيك هذه الآية، وتلك الإشارة؟!
اللهم امسح عليه بيمينك الشافية، واجمع له بين الأجر والعافية، اللهم آمين. والله تعالى أعلى وأعلم.

_____________________

(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/413) حديث (3922)، وابن ماجه في كتاب «الطب» باب «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء» حديث (3438) من حديث عبد الله بن مسعود ، وذكره الكناني في «مصباح الزجاجة» (4/50) وقال: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».

(2) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها» حديث (132).

(3) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها» حديث (133) من حديث أبي هريرة .

(4) «شرح النووي على صحيح مسلم» (2/154).

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend