نسبة الظلم إلى الله إن عذب الصالحين

لا يخفى على المسلم أن الله لا يظلم خلقه شيئًا، والظلم هو وَضْع الشيء في غير موضعه، ومن ذلك عقابُ من لم يستحقَّ العقاب، كتعذيب المطيع لله وإدخاله النار، ولا يدخل في ذلك ابتلاء الصالحين في الحياة الدنيا، فهذا في الحقيقة هو من إحسان الله لهم باعتبار العاقبة الحسنة من وراء امتحانهم، مع ما يدخره الله لهم من الأجور يوم القيامة.
وقد قرَّر أهل العلم بأن ما يُصيب الأطفال من بلاء وضراء في الدنيا هو من باب امتحان آبائهم ومن باب التفضل على هؤلاء الأطفال في الآخرة بتعويضهم في الآخرة.
ولا يخفى كذلك أن ما يصيب الحيوانات من مصائب كأمراض وهلاك ونحو ذلك هو من باب امتحان أصحاب هذه البهائم، ولكن يبقى السؤال المشكل، وهو: ماذا فعلت هذه البهائم حتى يصيبها ما أصابها؟ وخاصة أنها في الآخرة لن تُعوَّض بشيء، بل ستكون ترابًا ولن تدخل الجنة.
ولو قلتم: إن الله له أن يفعل ما يشاء بخلقه، وأن الله يستحيل في حقه أن يكون ظالمًا ولو أراد؛ لأن الظالم هو الذي يتصرف في ملك غيره، وليس الظلم عند الله ممكنًا، وليس الظلم كذلك هو وضع الشيء في غير موضعه كما قاله ابن رجب، فهل هذا يعني أن من قال بأن الله لو عذَّب خلقه الصالحين وأدخلهم النار وعاقب المطيع وعذبه لكان ظالمًا سبحانه، بأن قوله خطأ وإن كان مذهب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلا يخفى أن رحمة الله للعبد خير له من عمله؛ فإن عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته، ولو وُكل إلى عمله لم ينجُ به البتة؛ ولهذا فإن اللهَ لو عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غيرُ ظالم لهم، ومما يوضحه أن شكره سبحانه مستحَق عليهم بجهة ربوبيته لهم وكونهم عبيده ومماليكه، وذلك يُوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه ويوحدوه ويتقربوا إليه تقرُّب العبد المحب الذي يتقلب في نعمه ولا غناء به عنه طرفة عين، وهذا يستلزم علومًا وأعمالًا وإرادات وعزائم لا يعارضها غيرها، ولا يبقى له معها التفات إلى غيره بوجه. ومعلوم أن ما يُطبَع عليه البشر لا يفي بذلك وما يستحقه الرب تعالى لذاته، وأنه أهلٌ أن يُعبَد أعظمَ مما يستحقه لإحسانه، فهو المستحق لنهاية العبادة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه، وفي بعض الآثار: لو لم أخلق جنة ولا نارًا لكنت أهلًا أن أُعبَد(1)؛ ولهذا يقول أعبدُ خلقِه له يوم القيامة وهم الملائكة: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك(2).
فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يُعبَد به ويستحقه لذاته وإحسانه، فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه، فلا يَسَعُهم إلا عفوه وتجاوزه، وهو سبحانه أعلمُ بعباده منهم بأنفسهم، فلو عذَّبهم لعذَّبهم بما يعلمه منهم وإن لم يحيطوا به علمًا، ولو عذبهم قبل أن يُرسِل رسله إليهم على أعمالهم لم يكن ظالمًا لهم، كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم وقبائحهم، فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمَقَتَهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته.
وسر المسألة: أنه لما كان شُكر المُنعِم على قدره وعلى قدر نعمه، ولا يقوم بذلك أحد، كان حقُّه سبحانه على كلِّ أحد وله المطالبة به وإن لم يغفر له ويرحمه، وإلا عذبه، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه، فإن لم يحفظهم هلكوا، وإن لم يرزقهم هلكوا، وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا.
هذا بعض ما جاد به يراع ابن القيم في هذه المسألة بتصرف يسير، لعلك تجد فيه ضالتك. زادك الله توفيقًا وهدًى. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكر أهل العلم أنه أثر إسرائيلي وورد ذكره عن بعض العارفين، راجع شيخ الإسلام ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» (6 /68 ) ، والإمام ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (2 /87 ،123) و«تفسير الآلوسي» (15-100).
(2) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (3/93) حديث (4502) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه».

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend