حول ردود الأفعال العنيفة ضد مراقد الأولياء والصالحين

ردود الأفعال العنيفة ضد مراقد الأولياء والصالحين، وسعي البعض بسذاجة وحسن نية، أو بحماقة واندفاع أهوج، أو بدهاء وقصدٍ خبيث، إلى تشويه جمال الثورات العربية، ورموزها الدينية، وردود الأفعال الأعنف من قبل بعض مؤسسات الإفتاء، وتباين ردود أفعال المراقبين من عموم المسلمين، فهل لكم من تعليق؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فأرجو التأكيد على جملة من المعالم، ثم نعقب بعرض تصور أرجو أن يسهم في رفع هذا الاحتقان:
أولًا: إن محبة الصالحين وتوقيرهم من معالم الشريعة وعزائم أحكامها، وذلك جزء من عقيدة الولاء والبراء التي استفاض الحديث عنها في نصوص الوحيين قرآنًا وسنة صحيحة، وقد أنزل الله قرآنًا يتلى في المنافقين الذين طعنوا في بعض القراء وسخروا منهم وقال لهم: لَا تَعْتَذِرُوا۟ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍۢ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةًۢ بِأَنَّهُمْ كَانُوا۟ مُجْرِمِينَ [التوبة: 66].
ثانيًا: وأولى الناس بالمحبة والتقدير، وأخصهم بهذه العاطفة الجياشة قرابة النبي ﷺ وآل بيته المقتدون به والمتبعون لسنته؛ فقد قال تعالى: قُل لَّآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِى ٱلْقُربي [الشورى: 23]. وعندما شكى إليه العباس أن قومًا يجفون بني هاشم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لله وَلِقَرَابَتِي»(1).
ثالثًا: ضرورة التفريق بين المحبة المشروعة والغلو المذموم؛ فقد كان الغلو في الصالحين من أولى الذرائع إلى الشرك في تاريخ البشرية؛ ولهذا جاء نهيه ﷺ عن الغلو، وقوله: «إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»(2).
رابعًا: ومن صور الغلو المذموم اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجدَ، فعن عائشة وابن عباس ب: أن رسولَ الله ﷺ لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». تقول عائشة: يحذر مثل الذي صنعوا (3).
وعنها ل قالت: لما كان مرض النبي ﷺ تذاكر بعض نسائه كنيسةً بأرض الحبشة يقال لها: مارية، وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي ﷺ رأسه فقال: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْـخَلْقِ عِنْدَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4).
خامسًا: واتخاذ القبر مسجدًا معناه الصلاة عليه أو إليه، أو بناء المسجد عليه، وليس من ذلك مجاورة المسجد للقبر ولا كون إحدى حوائط القبر ملتصقة بالمسجد ما دام القبر منفصلًا عن المسجد؛ فإن مجرد المجاورة لا تضر، ومن الأدلة على ذلك رضا صحابة النبي ﷺ به وانعقاد إجماعهم عليه، وقد كان النهي عن اتخاذ القبور مساجد حاضرًا في أذهانهم حينئذ، وقد ردوا به على من اقترح دفنه في المسجد، أو اقترح دفنه في البقيع؛ حتى لا يبرز قبره ويتخذ مسجدًّا، فعلم من ذلك بيقين أن دفن النبي ﷺ في حجرته المجاورة للمسجد والتي تشترك مع المسجد في الحائط الذي به باب الحجرة، فهي أشبه ما تكون بحجرة الأئمة التي تفتح على ساحة المسجد في كثير من مساجدنا المعاصرة، لا يدخل في صور النهي عن اتخاذ القبور مساجد وليس من جنسه، ولو كان من الصور الممنوعة وكان الترخص في حقه ﷺ خاصة لأن الأنبياء يدفنون في مواضع قبض أرواحهم ما امتد هذا الترخص إلى صاحبيه من بعده أبي بكر وعمر ب.
سادسًا: وبهذا لا يرد على النهي عن اتخاذ القبور مساجد دفنه ﷺ في المسجد؛ فقد كان بداية دفنه كما سبق في حجرة أمنا عائشة ل، وكان يفصل بينها وبين المسجد جدار فيه باب، كان النبي ﷺ يخرج منه إلى المسجد؛ لأن الأنبياء يُدفنون حيث يموتون، ثم أُدخلت الحجرة الشريفة في المسجد بعد ذلك عند توسعته في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان، سنة ثمان وثمانين، ولا يعد هذا من جنس البناء على القبور أو اتخاذها مساجد؛ لأن هذا بيت مستقل أدخل في المسجد؛ للحاجة للتوسعة، وهذا من جنس المقبرة التي أمام المسجد مفصولة عن المسجد لا تضره، وهكذا قبر النبي ﷺ مفصول بجدار وقضبان، وقد ذكر أهل العلم أن الحجرة لما أدخلت إلى المسجد سُد بابها، وبني عليها حائط آخر صيانة له ﷺ أن يتخذ بيته عيدًا وقبره وثنًا.
قال النووي: «ولما احتاجت الصحابة والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله ﷺ حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة ل مدفن رسول الله ﷺ وصاحبيه أبي بكر وعمر ب، بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر»(5).
سابعًا: وإذا كان قد شاع بناء المساجد على قبور الصالحين في عصور متأخرة لتأولات فقهية أو لاعتبارات تاريخية، وأصبحت واقعًا لابد من التعامل الراشد معه، فينبغي أن نتجاوز الحديث المثير للفتن عن هدم المراقد أو نبشها، وأن يحتاط لجناب التوحيد بحيث تمنع الذرائع التي تؤدي إلى الغلو فيها وعبادتها من دون الله، وذلك بأن يفعل معها مثل ما فعل في المسجد النبوي بالحجرة الشريفة، بأن تفصل بجدر وقضبان بما يحول دون جعلها قبلة للصلاة، ويكون الوصول إليها من خارج المسجد، وأن يستفيض البلاغ بحرمة صور الغلو التي يمارسها جهلاء المتنسكين حولها من طواف أو نذر أو موالد ونحو ذلك، وبهذا نحفظ لمراقد الصالحين حرمتها، ونحفظ للتوحيد جنابه، ونحول دون استفزاز مشاعر عموم المسلمين الذين ارتبطت مشاعرهم بآل بيت النبوة، ويسوءهم تعرُّض بعض الجهال لهذه المراقد بما ينال من حرمتها، وحرمة الراقدين بها من العترة النبوية الشريفة.
ثامنًا: ولا يفوتنا التأكيد على ما استقر في بدهيات الحسبة من أن إنكار المنكَر باليد إذا كان سيُفضي إلى منكر أكبر فإن إنكاره على هذا الوجه يكون محرمًا، وينتقل الواجب إلى الإنكار باللسان أو القلب حسب الأحوال.
كما لا يفوتنا التأكيد على شجبنا لهذه الحوادث خاصة، وإنكارنا على أصحابها، ويقيننا بأن مفاسدها ظاهرة، وأنها لا تصبُّ في النهاية إلا في رصيد العلمانين وخصوم الشريعة! سواء أكان الذين قاموا بها من المتآمرين على أهل الدين، بارتكاب هذه الشنائع ونسبتها إلى أهل الدين، تعميقًا للفجوة بينهم وبين جماعة المسلمين، أو ارتكبها بعض حمقى المتدينين وعوامهم ممن غاب عنه فقه الاحتساب وإنكار المنكر كما خطه يَرَاعُ الفحولِ من أهل العلم وحملة الشريعة.
ونسأل لله للجميع الهدى والتقى والسداد والرشاد. والله تعالى أعلى وأعلم.

____________________

(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/207) حديث (1777)، وابن ماجه في «المقدمة» باب «فضل العباس بن عبد المطلب» حديث (140)، والحاكم في «مستدركه» (4/85) حديث (6960)، والطبراني في «الكبير» (11/433) حديث (12228) من حديث العباس بن عبد المطلب.

(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/215) حديث (1851)، وابن ماجه في كتاب «المناسك» باب «قدر حصى الرمي» حديث (3029)، والحاكم في «مستدركه» (1/637) حديث (1711)، من حديث ابن عباس؛ وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».

(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «الصلاة في البيعة» حديث (436)، ومسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد» حديث (531)، من حديث عائشة.

(4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟» حديث (427)، ومسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد» حديث (528).

(5) «شرح النووي على صحيح مسلم» (5 /14).

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend