المسلم ونظم التعليم غير الإسلامية

الأستاذ الفاضل الدكتور صلاح، حفظك الله ورعاك وأعانك وجعلك سببًا لهداية الناس لا تباع ما أنزل على رسوله ﷺ، أرجو أن يتسع صدرك لصراحتي:
منذ أن من الله علي بالالتزام تغيرت حياتي تمامًا، أصبح لي منظور إسلامي في كل ما تمر به الأمة، نحن نعيش عصر الوهن وقلة العزم والبعد عن التحاكم بما أنزل الله حتى في بيوتنا تلك المساحة الصغيرة من الأرض التي استخلفنا الله فيها، هذا هو الوهن الذي حذرنا منه رسول الله ﷺ والذي نتج عن تقاعس الأمة عن الجهاد وإعلاء كلمة الله في كل مكان بحجة بناء جيل التمكين. هذا الوهم الكاذب والخداع الذي نخدع به أنفسنا، فلو كنا صدقنا الله لصدقنا وأوجد لنا هذا الجيل، ولكننا نخادع الله وهو يعلم ما نسر ونعلن.
أريد أن أسأل حضرتك عن العلماء وعامة الأمة الذين يعلمون علم اليقين أن المدارس ما عملت إلا للصد عن سبيل الله وإدخال الأفكار العلمانية وتعليم الشركيات وبث روح الولاء للأنظمة الفاسدة هذا فضلًا على ما فيها من أصدقاء السوء من شياطين الإنس من المعلمين والطلبة، وبعد كل هذا يزجون بأولادهم إليها كقوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾  [الزخرف: 22] بل ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل تعليم أولادهم فيها. لقد كان معي في الدار ما لا يقل عن خمسين طفلًا يحفظون القرآن فما إن بدأت الدراسة حتى انصرفوا عن القران واشتروا به ثمنًا قليلًا وتركوه وراء ظهورهم لينشأ الطفل وبعد ذلك الشاب وقد رباه والداه على أن علاقته بالقرآن شيء ثانوي في الحياة! هل هذا جيل التمكين؟ هل هؤلاء الآباء صدقوا الله أم خانوا أمانته التي استودعها عندهم؟
ونأتي لمسألة أخرى: تعيش الأسرة حالة من الالتزام مدة وجود الأطفال في الغربة خاصة إذا كانت هذه الأسرة تعيش في بلد تحكم بالشريعة الإسلامية ثم يكبر الأولاد فيعودون بهم إلى مصر لتلقي التعليم الجامعي، كيف هان عليهم أولادهم وهانت عليهم أنفسهم أن يزجوا بأولادهم إلى هذا المستنقع بؤرة الفساد المملوءة بكل أنواع الفواحش من اختلاط وتبرج ومخدرات ودعوات من الشياطين لكل أنواع الرذائل؟ كم سيئة يأخذها الوالدان في كل مرة ينزل فيها أبناؤهم إلى أرض المعاصي والفساد؟ كم مرة تقع عين ابنهم الملتزم على الفتيات الكاسيات العاريات؟ وكم مرة تشعر البنت الملتزمة بضالتها أمام ما تراه من صور المتبرجات والتفاف الشباب حولهم بينما لا يلتفت إليها أحد منهم فتنقم على دينها وتتمرد على أبويها وتتمزق نفسيًّا بسبب إحساسها بالذنب ورغبتها في الخوض مع الخائضين؟! لماذا نحمل أبناءنا هذه الضغوط فينشأ جيل ممزق نفسيًّا ضعيف الإرادة يشعر بضآلة حجمه أمام حيوية ونشاط الغافلين؟لماذا نفعل هذا بأنفسنا أولًا ثم بأعز الناس لدينا؟
وأنا أطلب منك يا دكتور صلاح أن تطالب كل أب أن يحكم بيته بما أنزل الله ولا يتباهَوا بأولادهم؛ لننجو جميعًا بإذن الله تعالى فليس لها من دون الله كاشفة، تأمل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7] فمتى وجد الابن أن والده قد أخذ موقفًا ثابتًا لنُصرة دين الله سيعلو في نظر أبنائه ويعلمون أن دين الله أهم عنده من الدنيا وما فيها! عندها سترفع راية «لا إله إلا الله» في قلوب المسلمين:﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30] إن ما يخافه الآباء اليوم هو حرصهم على مشاعر أبنائهم حتى إن كانت على حساب الدين، نسأل الله السلامة والعفو والمعافاة لكل أبناء المسلمين، ولابد أن نوقن أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلابد من حلول باترة لأسباب الفساد دِقها وجِلَّها عسى الله أن يرحمنا ويغفر لنا ما قدمنا إنه ولي ذلك والقادر عليه. إن كنت قد أصبت فمن الله وإن كنت قد أخطأت فمن نفسي. والسلام.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
بدايةً أشكر للسائلة هذه الغيرة وأتمنى لها التوفيق والسداد، وأثنِّي بأن حديثها عن فساد الأنظمة التعليمية في معظم البلاد الإسلامية واقع معيش ومحسوس، لا يكابر فيه إلا مكابر، ولا ينكره إلا مَن سَفِه نفسه، ولكن المناقشة والتفصيل إنما تدور حول الحلول المقترحة المرحلية لمواجهة هذا الخلل والتصدي لهذا الوهن، هل يكون ذلك بسحب أبناء المسلمين من هذه المدارس والجامعات، وحشرهم في الخلاوى ومكاتب تحفيظ القرآن الكريم الأهلية، فنقطعهم عن كل أسباب القوة في واقعنا المعاصر، فلا يكون لهم حظ في شهادات دراسية ولا مواقع وظيفية، وتخلو هذه المواقع للعلمانيين وخصوم الشريعة، وأعداء الطهر والفضيلة؟!
لقد فعل هذا بعض المسلمين في بعض البلاد الإفريقية- وقد لمست ذلك بنفسي- فنشأت أجيالهم مغيَّبة عن واقعها، معزولة عن مجتمعاتها، وتفرد الصليبيون في هذه البلاد بكل أسباب القوة، فالشهادات حكر عليهم، والمواقع الوظيفية خالصة لأبنائهم من دون المسلمين! وعاش المسلمون في هذه المجتمعات تحت خط الفقر، عبئًا على ملَّتهم، وكلًّا على أمتهم، فلا أقاموا دينًا ولا أصلحوا دنيا! إن أسهل الحلول في مواجهة الأزمات هو الانسحاب، وترك السفينة تغرق بما فيها ومن فيها، ولكن هل تبرأ الذمة بذلك؟ وهل يكون ذلك في مرضاة الرب جل وعلا ويحقق مقصوده ويوفي بمصالح عباده؟ أم يتمثل الحل في السعي في توفير البدائل في حدود الوسع والطاقة، بإنشاء المؤسسات التعليمية الخاصة التي تحافظ على القيم وتنأى بالعملية التعليمية عن أسباب الفساد التي تغشاها في مؤسساتنا المعاصرة، فإن لم يتيسر ذلك وكان من الممكن توفير هذه الخدمة على المستوى الفردي على النحو الذي يجري في التعليم دون الجامعي في بلاد الغرب عن طريق ما يسمى بـ[schooling home] مثلًا- فبها ونعمت، فإن لم يتسنَّ هذا ولا ذاك فلا بديل من إقامة المصالح الشرعية الكلية، وإن اعترض في طريقها بعض المناكر الجزئية، وندعو الناس إلى تقوى الله في هذه المناكر قدر طاقتهم.
لا بديل من الإصرار على استخلاص ما في هذه المؤسسات من الخير، والحصول على ما تقدمه من علوم هي في الجملة من فروض الكفايات- فقد ذكر أهل العلم أن تعلم أصول الحرف كالصناعات والزراعات والتجارات ونحوها من جملة فروض الكفايات- مع التنبيه على ما تتضمنه من الشر والتحذير منه، والسعي في تقليله قدر الطاقة، واستصلاح ما يمكن استصلاحه من معاقلها، والصبر على ما لم يتسنَّ إصلاحه منها، مع استصحاب نية التغيير عند أول القدرة على ذلك، في إطار قاعدة «فاتقوا الله ما استطعتم».
هذا مع ترشيد الاختيار بحيث يقع الاختيار على المجالات المشروعة والحيوية التي تمس حاجة الأمة إليها، مما لا غنى لها عنه ولا بديل لها منه من أمور الحياة العامة. إنني أفهم أن يدرس أبناؤنا الطب أو الهندسة في هذه الجامعات على فسادها، ولكنني لا أكاد أفهم دراستهم للفلسفة أو الفنون التشكيلية، ويشكل علي جدًّا دراستهم لمثل السينما والمسرح ونحوها من ذرائع الفساد في واقعنا المعاصر!
وقد رأينا في التجارب العملية كيف آتت هذه المحاولات أكلها، وتكوَّن في أحضان هذه الجامعات- على فسادها- جيل من الربانيين من الشباب والشابات هم الذين جددوا شباب الحركة الإسلامية في واقعنا المعاصر، إن جل قيادات العمل الإسلامي المعاصر لم تتخرج في جامعة الأزهر، ولم تدرس في كليات الشريعة وأصول الدين، بل درسوا الطب والهندسة في هذه الجامعات، وكان للجهود والمحاضن الدعوية المبثوثة في هذه المعاقل، والتي أنشأها أمثالهم ممن ارتادوا هذه المواقع من قبلهم، أظهر الأثر في رعايتهم ودفع أسباب الفتنة عنهم، وفشل بعض التجارب الفردية لا يعني تعميم الحكم بالفشل على هذا المَنحَى بالكلية، وهو الذي تشهد له الأصول الشرعية، وتؤكده التجارب العملية.
إن كل من تحقق بدراسة الشريعة وتعرف على مقاصدها يدرك أن الأصل العام هو إقامة المصالح الشرعية الكلية وإن اعترض في طريقها بعض المناكر الجزئية، ويتقي الله في هذه المناكر ما استطاع. هل تترك دراسة الطب لمفاسد الاختلاط أو التشريح، وتترك هذه المهنة لغير المسلمين يكشفون عورات المسلمين ويأخذون أموالهم؟ هل تترك التقنية لغير المسلمين يحتلون بها مجتمعات المسلمين ويسيطرون من خلالها على مقدراتهم من أجل مفسدة الاختلاط المنتشرة في الجامعات، أم نسعى إلى امتلاك هذه العلوم وتحصيل هذه التقنية وننبه على مفاسد الاختلاط ورفقاء السوء ونحذر منها؟
إن مبنى الشريعة على تحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، وتلك قاعدة كلية تسري فيما لا ينحصر من الفروع الشرعية، وتكثر الحاجة إليها في أزمنة الفتن وغربة الدين واختلاط المصالح بالمفاسد، وهذا باب عظيم من الفقه يرجع فيه إلى الثقات الفحول من حملة الشريعة، ولا مدخل فيه للعامة وأشباه العامة، فالفقه هو الرخصة من العالم الثقة، أما التحريم فيحسنه كل أحد!
وبعد فقد بقيت كلمة أخيرة: وهي أنه قد يسع الآحاد من الناس ما لا يسع الجماعة، فقد يسع شخصًا بعينه لظروف خاصة به أو لما تيسر له من أسباب لم تتيسر لغيره أن ينحو هذا المنحى في التفكير، وأن يؤثر السلامة لنفسه ولولده ما دام ذلك عن رضا وتشاور معهم، ويوفر لهم بدائل أخرى، فتكون هذه حالات فردية أو وقائع أعيان لها خصوصيتها، ويمكن فهمها في إطار سياقها وملابساتها، ولكنها لا تصلح للتعميم، ولا يتسنى أن تتحول إلى قاعدة عامة تلزم الأمة بها ويتهم من خالفها بالخيانة وإضاعة الأمانة. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل، وهو تعالى أعلى وأعز وأجل وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend