ما حكم الشَّرع الحكيم في القول التَّالي: أنا أعلم متى يرضى الله عني ومتى يغضب، فقلبي هو دليلي؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن إطلاقَ هذا القول موضعُ نظرٍ، فقد يصحُّ باعتبارٍ ولا يَصِحُّ باعتبارٍ آخر:
فهو يصح باعتبار أن الإثمَ ما حاك في صدرك وكرهتَ أن يطَّلِع عليه النَّاس، فعن النَّوَّاس بن سَمْعان رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الْبِرُّ حُسْنُ الْـخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»(1).
وعن أبي ثَعْلبة الخُشَني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْـمُفْتُونَ»(2).
وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟» قال: قلت: نعم. قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره وقال: «اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ- ثَلَاثًا- الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»(3).
والمعنى أنه وإن أفتاك مُفتٍ بأن هذا جائزٌ، ولكن نفسك لم تطمئنَّ ولم تنشرح إليه فدعه، فإن هذا من الخير والبرِّ، إلا إذا علمت في نفسك مرضًا من الوسواس والشكِّ والتَّردُّد فلا تلتفت لهذا، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما يُخاطب النَّاسَ أو يتكلَّم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرضٌ.
يقول ابنُ القيِّم :: «لا يجوز العملُ بمُجرَّد فتوى المفتي إذا لم تطمئنَّ نفسه، وحاك في صدره من قبوله وتردَّد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «اسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ».
فيجب عليه أن يستفتيَ نفسَه أوَّلًا، ولا تُخلِّصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمرَ في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاءُ القاضي له بذلك، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»(4).
والمفتي والقاضي في هذا سواءٌ، ولا يظنُّ المستفتي أن مُجرَّد فتوى الفقيه تُبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمرَ بخلافه في الباطن، سواء تردَّد أو حاك في صدره، لعِلْمه بالحال في الباطن، أو لشكِّه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهلَ المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيُّده بالكتاب والسُّنَّة، أو لأنه معروفٌ بالفتوى بالحيل والرُّخَص المخالفة للسُّنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثِّقَة بفتواه، وسكون النَّفس إليها»(5).
ويكون باطلًا عندما تجعل من قلبك وحده مصدر الهدى بمعزلٍ عن الوحي المعصوم، فتعتمد على ما يلقى في روعك ويقع في نفسك من خواطرَ وإشراقاتٍ لتُميِّز بين الحلال الحرام، وتضرب بقواعد الشَّرع عُرْض الحائط، وقد وُجد من أسرف في ذلك حتى يكاد يقول: حدَّثني قلبي عن ربِّي! ويقول: تأخذون علومكم ميتًا عن ميتٍ ونحن نأخذ علومنا عن الحيِّ الذي لا يموت.
والحقُّ أيُّها الموفَّق وسطٌ بين الغالي فيه الجافي عنه. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تفسير البر والإثم» حديث (2553).
(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/194) حديث (17777)، والطبراني في «الكبير» (22/219) حديث (585)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/30)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/175- 176) وقال: «رجاله ثقات»، والمنذري في «الترهيب والترغيب» (2/351) وقال: «رواه أحمد بإسناد جيد»، وابن رجب في «جامع العلوم والحكم» ص251 وجود إسناده.
(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/228) حديث (18030)، والدارمي في كتاب «البيوع» باب «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» حديث (2533)، وأبو يعلى في «مسنده» (3/160- 161) حديث (1586). وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/351) وقال: «رواه أحمد بإسناد حسن»، والنووي في «رياض الصالحين» ص130 وقال: «حديث حسن رواه أحمد والدارمي في مسنديهما».
(4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأحكام» باب «موعظة الإمام للخصوم» حديث (7169)، ومسلم في كتاب «الأقضية» باب «الحكم بالظاهر واللحن بالحجة» حديث (1713)، من حديث أم سلمة ل.
(5) «زاد المعاد» (4/254).