القانون الوضعي والشريعة

أدعو الله سبحانه أن يجعل عملكم في ميزان حسناتكم وينفعكم به في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قال الله تعالى مُقسِمًا بذاته المقدسة متوعِّدًا عباده بانتفاء الإيمان: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65]. إني أتوجه إليكم بأسئلتي هذه، وأرجو من سماحة العلماء الأعلام الإجابة عليها وفقًا للشريعة الإسلامية:
1- ما الحكم الشرعي في القوانين الوضعية التي تخالف الأحكام الشرعية القطعية الثبوت والدلالة، وهل يجوز العمل بها أو الاحتكام إليها؟
2- لو رفع أحدنا مَظْلِمَته أمام القضاء وجاء الحكم استنادًا إلى القانون الوضعي المنافي للحكم الشرعي تمامًا فأسقط الحق الشرعي الثابت، فما الحكم في هذا القانون؟
3- ما الحكم الشرعي في قضاة مسلمين يقدمون القانون الوضعي على الحكم الشرعي ويحكمون فينا- نحن المسلمين- بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى؟
4- قوله عز مِن قائلٍ في محكم كتابه العزيز: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [يس: 30]، أليس كل من يرضى بتقديم أحكام القانون الوضعي على الأحكام الإلهية الشرعية القطعية الثبوت والدلالة لدى أهل القبلة قاطبة، يعد من المستخفِّين بالله العظيم وكتابه، والمستهزئين برسوله وسنته، ونحن ندعي الإسلام؟ الرجاء الإجابة عن أسئلتنا وعدم إهمالها ولكم الشكر والسلام.


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
1- فإن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والانقياد لما جاء به من البينات والهدى هو معقد التفرقة بين الإيمان والزندقة، بل هو أصل الدين الذي يتفرق الناس عنده إلى مسلمين وغير مسلمين، فلم يرسل الله رسوله إلا ليطاع بإذنه، ولم يُنزِل كتابه إلا ليكون حكمًا بين العباد، فمن حكم به عدل، ومن عدل عنه زاغ وقسط، وتحكيم القوانين الوضعية المخالفة لقطعيات الشريعة ومحكماتها من كبائر الإثم وفواحش الذنوب، والنهي عن ذلك مستفيض في الكتاب والسنة المطهرة، قال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة: 49]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59].
فدل ذلك على أن من لم يُحكِّم الله ورسوله فيما تنازع فيه الناس فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر، قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65]، قال ابن كثير :: «يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول في جميع الأمور، فما حكَم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65]، أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيُسلِّمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِـمَا جِئْتُ بِهِ)».
ويقول الجصاص :: «وفي هذه الآية دلالة على أن مَن ردَّ شيئًا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله، فهو خارجٌ مِن الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريِّهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان».
هذا ولقد نُهِيَ الصحابة في القرآن عن أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وجَعَل من هذا الفعل- الذي قد يبدو يسيرًا- سببًا لحبوط الأعمال، وسبيلًا قاصدًا إلى الردة عن الإسلام، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2].
يقول ابن القيم :: «فإذا كان رفْعُ أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه؟! أليس هذا أولى أن يكون محبطًا لأعمالهم؟!».
فكيف إذا كان الأمر إهدارًا لشريعته، وردًّا لسنته، وتقديمًا للقوانين الوضعية على ما جاء به من البيِّنات والهدى؟!
والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة ومعلومة.
وعلى هذا فلا يجوز الرضا بهذه القوانين ولا يجوز التحاكم إليها في حال السعة والاختيار، ولا مشايعة القائمين عليها بقول أو عمل، وللمضطر أحكامه على أن تقدر الضرورة بقدرها، ويسعى في إزالتها، والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية:   18 القضاء

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend