السؤال:
ما هي منزلة آل البيت عند أهل السنة؟ ولماذا لم نر أثرًا للحديث عن مناقبهم في تراثهم؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد تكرر إرسالُ هذا السؤال إليَّ من قبل، فقد سألني سائل حول حقوق آل البيت، وزعم أنه لم يجد عند علماء السنة أثرًا لحديث الثقلين الذي يُوصِي بهم، رغم أنه ثابت في الصحيح، وأن آل البيت قد تمَّ تجاهلهم عبر القرون، وأنهم ظُلموا من كثير من أهل السنة، بل تاهت هويتهم واضطربت معالمهم عندهم، فلم يضبطوا من هم أهل البيت، رغم ما جاء في السنة الصحيحة من أنهم عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين، وذلك كما في حديث الكساء([1])، فأدخل أهلُ السنة في ذلك أزواج النبي وهم ليسوا بداخلين لا شرعًا ولا عرفًا ولا لغة، وأدخلوا عموم بني هاشم، ولا يشملهم حديث الكساء كما هو ظاهر. ثم سأل عن منع أهل السنة السلام على آل البيت عند ذكرهم كأن يقال: فاطمة عليها السلام. أو الحسين عليه السلام. ونحوه.
فشرعت في الإجابة عليه، فصدَّرت حديثي بذكر حديث الثقلين كما ورد في «صحيح مسلم»، عن زيد بن أرقم حيث قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبًا بماء يُدعَى خُمًّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذَكَّر ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُـهُمَا كِتَابُ الله فِيهِ الْـهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ الله وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ». فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه ثم قال: «وَأَهْلُ بَيْتِي؛ أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي». فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤُه من أهل بيته؟! قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهلَ بيته من حُرِمَ الصدقةَ بعدَه. قال: ومن هم؟ قال: هم آلُ عليٍّ وآلُ عَقيلٍ وآلُ جعفرٍ وآل عباسٍ. قال: كل هؤلاء حُرم الصدقةَ؟ قال: نعم([2]).
ثم أشرتُ إلى حفاوة الصحابة خاصةً، ومن ورائهم عموم الأمة بصفة عامة- بأهل البيت، وإن كان قد وُجِد من ناصبَهُم العداءَ عبر القرون من النواصب، ولكن حفاوة عموم الأمة بهم ظاهرةٌ.
فقد أورد البخاريُّ في «صحيحه»: قول أبي بكر رضي الله عنه: والله لأن أصل قرابةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ من أن أصل قرابتي([3]).
وروى عنه أيضًا قوله: ارقبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته([4]). يعني: راعوا وصيتَه في أهل بيته صلى الله عليه وسلم.
كما أورد الطبراني عن عمر قوله للعباس يوم أسلم: والله لإسلامُك يومَ أسلمت أحبُّ إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم. وهو أبوه. قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على إسلامك([5]).
وأورد أيضًا: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أصاب الناس قحطٌ وخرج يستسقي استسقَى بالعباس.
واختار العباسَ ليستسقي للناس ويدعو لهم؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم إنا كنَّا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا- يعني: طلبنا منه الدعاء وتوسلنا بدعائه- فتسقيَنا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، قم يا عباس فادع الله([6]).
فقال: بعم نبينا. وما قال: بالعباس؛ لأنه يريد من ذلك الرابطة أو السبب الذي جعله يختارُه؛ فاختاره لأنه عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد استقرَّت لصالحي آل بيت النبوة في نفوس المؤمنين مكانةٌ رفيعة، لقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، واتصالهم بنسبِه، وأصبحوا يُوصون بهم ويؤكدون على وجوب محبَّتِهم محبةً خاصَّةً باعتبار الإيمان والقرابة.
وأفرد المحدِّثون من أئمة أهل السنة أبوابًا كاملة لذِكر مناقب آل بيت النبوة.
أفرد الإمام البخاري رحمه الله-في «صحيحه» الكتاب الثاني والستون أبوابًا لذكر فضائل ومناقب آل البيت، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه.
- باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه.
- باب منقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
- باب فضل عائشة رضي الله عنها.
أما الإمام مسلم رحمه الله فقد أفرد في كتابه الصحيح، في الجزء الخامس والعشرين منه في كتابه الرابع والأربعين أبوابًا منها:
- فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
- فضائل الحسن والحُسين رضي الله عنهما.
- فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام.
- من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
- فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه.
- فضائل عائشة رضي الله عنها.
ولا يخفى أن هذين الكتابين السابقين يُعدان مع القرآن الكريم العُمدة في عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقد ألَّف الإمامُ البزار رحمه الله جُزءًا مستقلًّا سماه «فضائل أهل البيت».
وأفرد الإمامُ الترمذي رحمه الله في جامعِهِ أبوابًا في مناقب آل البيت وفضائلهم عليهم السلام، نذكر منها:
- باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولهُ كُنيَتان: أبو تراب، وأبو الحسن.
- باب قول الأنصار: كُنا نعرف المُنافقين ببغضهم عليَّ بن أبي طالب.
وغيرها من الأبواب الكثيرة في ذِكرِ فضائل علي عليه السلام.
- باب مناقب أبي الفضل عَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو العباس بن عبد المُطلب رضي الله عنه.
- باب مناقب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
- باب مناقب أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب والحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
- باب «إن ابني هذا سيِّد» أي الحسن عليه السلام.
وأبواب عديدة في ذِكرِ فضائل سِبْطَي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سَيِّدَيْ شباب أهل الجنة الحسن والحُسين عليهما السلام:
- باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
- باب ما جاء في فضل فاطمة رضي الله عنها.
- باب فضل عائشة رضي الله عنها.
- باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وأصبح هذا المسلكُ من التوقير والمحبَّة مسلكًا عامًّا عند أهل السنة، ينُصُّون عليه في عقائدهم، ويتوارثونه جيلًا بعد جيل.
ومما حفظته الأمة من تراث الإمام الشافعي رحمه الله قوله:
يا آلَ بَيتِ رَسولِ اللَهِ حُبَّكُمُ | فَرضٌ مِنَ اللَهِ في القُرآنِ أَنزَلَهُ | |
يَكفيكُمُ مِن عَظيمِ الفَخرِ أَنَّكُمُ | مَن لَم يُصَلِّ عَلَيكُم لا صَلاةَ لَهُ([7]) |
وألَّف الإمامُ البيهقي كذلك كتابًا أسماه «الفضائل»، عقدَ فصولًا فيه في فضائل أهل البيت والصحابة رضي الله عنهم.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في «العقيدة الواسطية» عن معتقد أهل الحق: «ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصيةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث قال يوم غدير خُمٍّ: «أُذكِّركم الله في أهل بيتي». وقال للعباس عمِّه وقد اشتكى إليه أنَّ بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: «والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي». وقال: «إنَّ الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»»([8]).
وقال رحمه الله: «ولا ريب أنَّ لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقًّا على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقُّه سائرُ بطون قريش، كما أنَّ قريشًا يستحقون المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل»([9]).
وقد عَقَدَ رحمه الله في عقيدتِهِ الواسِطية بابًا سماهُ: مكانة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند أهلِ السُنةِ والجماعة. بل وألَّف رحمه الله كتابًا مُفردًا سماه «حقوق آل البيت بين السُنةِ والبدعة».
وقال الحافظ ابن كثير في «التفسير»: «ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذريةٍ طاهرةٍ من أشرف بيت وُجد على وجه الأرض فخرًا وحسبًا ونسبًا، ولاسيما إذا كانوا متَّبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجليَّة، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعليٍّ وأهل ذريته رضي الله عنهم أجمعين»([10]).
وقال الموفق ابن قدامة المقدسي في «لمعة الاعتقاد»: «ومن السُّنَّة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أمهات المؤمنين المطهرات المبرءات من كل سوء؛ أفضلهم خديجةُ بنت خويلد، وعائشة الصدِّيقة بنت الصدِّيق التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فهو كافر بالله العظيم»([11]).
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ في كتابه «الشريعة»: «واجبٌ على كل مؤمن ومؤمنة محبةُ أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بنو هاشم: علي بن أبي طالب وولدِه وذريته، وفاطمة وولدها وذريتها، والحسن والحسين وأولادهما وذريتهما، وجعفر الطيار وولده وذريته، وحمزة وولده، والعباس وولده وذريته رضي الله عنهم، هؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واجب على المسلمين محبَّتُهم وإكرامهم واحتمالهم وحُسن مداراتهم والصبر عليهم والدعاء لهم»([12]).
وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهو من أشهر منِ اتُّهم زورًا بالجفاء في آل البيت: «لآله صلى الله عليه وسلم حقٌّ لا يشركهم فيه غيرُهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقُّه سائرُ قريش. وقريش يستحقُّون ما لا يستحقه غيرهم من القبائل».
وقال رحمه الله في موضع آخر: «وقد أوجب اللهُ لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقًا، فلا يجوز لمسلم أن يُسقط حقوقَهم ويظن أنه من التوحيد، بل هو من الغلو والجفاء، ونحن ما أنكرنا إلا ادعاءَ الألوهية فيهم وإكرام مدعي ذلك». والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________
([1]) أخرجه مسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم» حديث (2424) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداةً وعليه مِرْطٌ مُرحَّلٌ من شعرٍ أسودَ، فجاء الحسنُ بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليٌّ فأدخله، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب: 33].
([2]) أخرجه مسلم في كتاب «فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم» باب «من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه» حديث (2408).
([3]) ذكره الذهبي في «المنتقى» ص208.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم» حديث (3713).
([5]) أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/11) حديث (7264).
([6]) أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا» حديث (1010)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([7]) هذان البيتان للشافعي رضي الله عنه، وهما من بحر البسيط.
([9]) «منهاج السنة النبوية» لابن تيمية (4/599).