فضيلة الشيخ، سلام الله عليك ورحمته وبركاته، مشكلتي فضيلة الشيخ تعود إلى سنوات كثيرة مضت أرجو أن يتسع صدركم لسماع قصتي: كنت دائمًا- والحمد لله- الأول في دراستي في جميع مراحلها إلى أن جاءت الثانوية العامة وذاكرت فيها مذاكرة جيدة لم أضع فيها أي وقت. كان هدفي الالتحاق بإحدى كليات القمة إلى أن جاءت الامتحانات وكنت- والحمد لله- أؤدي أداءً جيدًا وكانت اللجان فيها غش لكنني كنت لا أغش لأنني أفضل طالب في المدرسة، وفي إحدى الليالي التي سبقت الامتحان كان الوقت ضيقًا ولم أستطع مراجعة المادة فتوترت أعصابي وقلت لنفسي في ذلك الوقت أنا مذاكر هاتين المادتين مذاكرة جيدة فأنا أولى بالغش من غيري وقمت بالغش دون أن أنتظر لأرى إن كنت سأتذكر أم لا فقمت بالغش باعتبار أن هذا حقي وأنني قمت بمذاكرتهما جيدًا ولم يسعفني الوقت لمراجعتهما ليلة الامتحان فأنا أولى ممن لم يذاكرهما من الأصل.
وليتني لم أفكر كذلك! دخلت إحدى كليات القمة ولم أغش فيها ولو مرة واحدة بل كنت من الأوائل على الدفعة، وأصبحت متميزًا جدًّا ولكن بدأت تراودني فكرة الغش في هاتين المادتين فأنا لا أدري إن كنت لم أغش كنت سأجاوب نفس الإجابة أم لا لأنني لم أعط لنفسي فرصة الإجابة دون غش لأنني كنت مذاكر المادتين جيدًا جدًّا ولكن لم يسعفني الوقت ليلة الامتحان لمراجعتهما فأصبحت حياتي جحيمًا لا أعرف هل أستحق مجموعي العالي أم لا، المشكلة أني أعرف جيدًا أن ما بني على باطل فهو باطل، لكنني لا أعرف هل أستحق دخول الكلية أم أنني أخذت حق أحدٍ غيري، ولو أنني متأكد أنني لو لم أغش كنت سأحصل على درجات أقل لتركت هذه الكلية دون تردد لكن المشكلة أنني طالب مجتهد وكنت مذاكرًا ولكن لم يسعفني الوقت للمراجعة فلا أدري لو دخلت الامتحان ولم أستكمل المراجعة كنت سأتذكر المعلومات أم لا وسأجيب نفس الإجابة دون غش أم لا؟
أرجو منكم المشورة فأنا أخاف أن أكسب ولو «مليمًا» حرامًا وهذا واضح والحمد لله في عملي الكل يشيد بأمانتي والحمد لله ناجح إلى أقصى درجة ومتفوق عن الكثير من زملائي. هل أترك هذا المجال أم أستمر فيه؟ دلوني أفادكم الله فأنا أعرف أن الغش حرام وما بني على باطل فهو باطل لكنني لست متأكدًا أنني لا أستحق هذه الدرجات لأنني كنت ذاكرت هاتين المادتين جيدًا ولكن لم يسعفني الوقت لمراجعتها وفي الكلية لم أغش كلمة واحدة وطلعت من الأوائل.
علمًا بأنني قد صليت صلاة استخارة وربنا وفقني في الكلية وأصبحت أعمل في عمل جيد، هل ذلك علامات صلاة الاستخارة أم أن صلاة الاستخارة في تلك الحالة لا تصح لأنه لا يجوز الاستخارة على أمر حرام؟ ماذا أفعل؟ علمًا بأنني لا أتقن أي شيء سوى دراستي والعمل في مجال دراستي. أرجو الرد سريعًا وجزاكم الله كل خير.
فضيلة الشيخ أردت من حضرتك الرد على هذا السؤال لأنني أخاف أن آكل من حرام فأهلك في آخرتي وإنني أفكر جديًّا في ترك عملي ولكنني لا أعرف ماذا أفعل؟ ماذا أقول لأهلي؟ كما أنني لا أستطيع الزواج لأن أهل الزوجة سيسألونني عن المؤهل كما أنني سأتزوج ممن حصلت على مؤهل؟ كما أنني لو تركت عملي وذهبت لأعمل أي عمل آخر عند أي أحد سيسألني عن المؤهل. أهلي يلحون علي بالزواج ولكنني أرفض لأنني لا أستطيع أن أبني حياتي على أمر مشكوك فيه! ماذا أفعل؟ حياتي أصبحت جحيمًا بسبب هذا الموضوع ولو فيه أي شبهة قل لي يا فضيلة الشيخ وسأتركه على الفور.
قرأت فتوى الشيخ عطية صقر : تعالى بشأن الإجارة الفاسدة وأن مَن حصل على شهادة عن طريق الغش أو التزوير وعمل بها استحق أجرة العامل أي أجرة المثل دون اعتبار المؤهل والباقي حرام، ولكنني أعتقد أنها لا تنطبق على حالتي لأنها تتعلق بمن حصل على شهادة الجامعة بالتزوير كما أنني لا أعرف كيف أحدد أجرة المثل وهل هذا يعني عدم ترك المجال أم لا؟ وهناك مَن قالوا لي، وهم كثيرون، إن التوبة تَجُبُّ ما قبلها ولكنني أعرف من شروط التوبة: ردُّ المظالم إلى أهلها، ولكنني لا أعرف هل ظلمت أحدًا أم لا، هل أخذت حق طالب آخر أم لا، وأعرف أيضًا أنه مثلًا لو تنافس عضوان على البرلمان ونجح أحدهما بطريق غير شرعي وحتى لو تاب بعد ذلك فماله حرام، هل ينطبق هذا عليَّ أم لا؟ مع العلم بأنني غير متأكد أنني لا أستحق هذا المجموع.
ثمة أمر آخر يا فضيلة الشيخ هناك شيوخ أفتوني أن هذا وسواس شيطان وأفتوني بأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، ولكن هذه الخواطر لا تزال تعتريني، فهل هذا مصداق لحديث: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»(1)؟ وهل إذا أخذت برأي أي منهم هل تبرأ ذمتي أم لابد أن أستفتي قلبي؟ أرجو منك فضيلة الشيخ الرد على هذه المشكلة التي تقض مضاجعي، وجعلكَ الله سببًا في حلها، وجزاك الله كل خير.
___________________
(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/228) حديث (18030)، والدارمي في كتاب «البيوع» باب «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» حديث (2533)، وأبو يعلى في «مسنده» (3/160- 161) حديث (1586)، من حديث وابصة بن معبد الأسدي ، ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/351) وقال: «رواه أحمد بإسناد حسن»، وذكره الألباني في «صحيح وضعيف الترغيب والترهيب» حديث (1734) وقال: «حسن لغيره».
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
يا بني لا تشقَّ على نفسِكَ إلى هذا الحدِّ! لقد كنت متأولًا فيما فعلت وإن كان التأويل فاسدًا ولكنه يبقى لك وجه تعلق به، ومن ناحية أخرى فإن «النَّدَم تَوْبَةٌ»(1)، وقد أحرقك الندم! لا تلقِ بالًا لهذه الوساوس، وأحسن فيما تستقبله من عمل يغفر الله لك ما استدبرته منه، والله جل وعلا أهل التقوى وأهل المغفرة. والله تعالى أعلى وأعلم.
________________
(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/422) حديث (4012)، وابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «ذكر التوبة» حديث (4252) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وذكره الكناني في «مصباح الزجاجة» (4/248) وقال: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات»، وذكره الألباني في «صحيح وضعيف الترغيب والترهيب» حديث (3147) وقال: «صحيح لغيره».