ألتمس عذرًا من فضيلتكم قبل أن أطرح استفساري واستغرابي، فأنا لا أحب مثل هذا النوع من الأسئلة التي تقلب صفحات الماضي، ولكن صدمت عندما وجدت في إحدى صفحات شبكة المعلومات الدولية كتابًا لإحدى الطوائف التي تنسب إلى الدين الإسلامي واسم هذا الكتاب «كتاب من حياة معاوية»، وأقول: «رضي الله عنه وأرضاه» للمدعو الأميني علامة تلكم الطائفة البائسة المحادة لله ورسوله.
كرس هذا المدعو وقته في تقليب صفحات مصادرنا نحن أهل الحق والاستقامة، أهل السنة والجماعة، علَّه يجد فيها ما يشين ويقلل من قدر هذا الصحابي الجليل، الذي قال رسول الله فيه: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا»(1)، تارة يلمزه بآكل الربا، وتارة بمعطل الحدود، ومميت السنن، ومحدث البدع كالأذان للعيدين والجمع بين الأختين، ولبسه ما لا يجوز… إلى غير ذلك من الافتراءات التي تلوى فيها النصوص لتوافق هوى هذه الطائفة البائسة.
كتاب سجل كاتبه فيه شهادته التي سيسأل عنها يوم القيامة، ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 19]، ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79].
– سمعت كلامًا عن سيدنا عمرو بن العاص وسيدنا معاوية ب من رجل أحترمه وأقدِّره لمكانته العلمية، هذا الكلامُ مُفادُه أنهما من الصَّحابة الكرام زمانًا ولكن ليسوا منهم قَدْرًا ومنزلةً بسبب ما فعلوه في آل البيت زمن الفِتْنة.
وبسبب منزلته وكبر سنِّه لا أستطيع أمامه إلا التزام الصمت وسرعة إنهاء الحديث في هذا الأمر بطريقة أو بأخرى.
واستفساري سيدي: لماذا يتعمدون الإساءة إلينا وأيدينا بالعطاء إليهم سابغة؟! لماذا يتهجمون على رموز لنا شهد لهم بالإخلاص المسلمون الأخيار وغير المسلمين؟!
شيخنا: كلمة من فضيلتكم تشهد لكم يوم القيامة للذب عن عرض صحابة رسول الله ، لاسيما كتاب المدعو الأميني.
كما أرجو من فضيلتكم بيانَ كيفية التَّعامُل في مثل هذا الموقف من الناحية القلبية ومن ناحيةِ النُّصْح. جزاكم اللهُ خَيْرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الذي ندين لله تعالى به أن قلوب أصحاب محمد أطهر قلوب العباد، وأن قرنهم خير القرون، وأن مسبتهم والوقوع فيهم علامة لا تخطئ على النفاق وعلى سخط الديان، كما نقطع بأن أبا بكر الصديق خير هذه الأمة بعد نبيها، وأن عمر الفاروق خير الصحابة بعد أبي بكر الصديق، وأن أم المؤمنين عائشة طاهرة مطهرة، وأنها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وأنه ما كان الله ليغش نبيه فيها، وأن من سبها بما برأها الله منه فهو مرتد عن الإسلام!
ندين لله تعالى بهذا، ونبرأ من كل ما خالفه، ونسأل الله لنا ولكم النجاة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
إن معاوية رضي الله عنه سترٌ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كشف الرَّجُل الستر اجترأ على ما وراءه كما قال الربيع بن نافع الحلبي(2).
ومن المعلوم أن معاوية رضي الله عنه كان- كما تعلم- من كُتَّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي دعا له رسول الله عز وجل بقوله: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ»(3).
وقصة الحديث كما رواها الترمذي في «فضائل معاوية»: أنه لما تولَّى أمر النَّاس كانت نفوسهم لا تزال مشتعلةً عليه، فقالوا: كيف يتولَّى معاوية وفي النَّاس مَن هو خير منه مثل الحسن والحسين؟! قال عمير وهو أحد الصَّحابة: لا تَذْكروه إلا بخيرٍ؛ فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ».
وأخرج الإمام أحمد، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَقِهِ الْعَذَابَ»(4).
وهو أول من ركبَ البحرَ في سبيل الله: فعن أنس بن مالك، عن خالته أم حرام بنت ملحان ل قالت: نام النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا قريبًا مني، ثم استيقظ يتبسَّم فقلت: ما أضحكك؟ قال: «أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ كَالْـمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ». قالت: فادعُ الله أن يجعلني منهم. فدعا لها، ثم نام الثانية ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادعُ الله أن يجعلني منهم. فقال: «أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ». فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيًا أوَّلَ ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام، فقربت إليها دابَّة لتركبها فصرعتها فماتت(5).
وعن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدَّثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازلٌ في ساحة حِمْص وهو في بناءٍ له ومعه أم حرامٍ، قال عميرٌ: فحدَّثتنا أم حرامٍ ل أنها سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا». قالت أم حرامٍ: قلت: يا رسول الله، أنا فيهم؟ قال: «أَنْتِ فِيهِمْ». ثم قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَـهُمْ». فقلتُ: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: «لَا»(6).
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: «قال المُهَلَّب: في هذا الحديث منقبةٌ لمعاوية لأنه أول مَن غزا البحر، ومنقبةٌ لولده يزيد لأنه أوَّل من غزا مدينة قيصر»(7).
ومِن ثناء ابن عباس على معاوية رضي الله عنه قولُه: ما رأيتُ رجلًا كان أخلق للملك من معاوية، كان الناس يَرِدون منه على أرجاءِ وادٍ رَحْبٍ، لم يكن بالضيِّق(8) الحصر(9) العصعص(10) المتغضب(11).
وقد سُئل عبد الله بن المبارك: أيُّهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: والله إن الغبارَ الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله عز وجل أفضلُ من عمر بألف مَرَّة، صلَّى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «سَمِعَ اللهُ لِـمَنْ حَمِدَهُ»، فقال معاوية: ربَّنا ولك الحمد. فما بعد هذا؟!(12).
قال مُحِبُّ الدين الخطيب: «سألني مَرَّةً أحدُ شباب المسلمين ممن يُحسن الظَّنَّ برأيي في الرِّجال: ما تقول في معاوية؟ فقلت له: ومَن أنا حتى أُسأل عن عظيم من عظماء هذه الأُمَّة وصاحبٍ من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ! إنه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأتِ الدُّنْيا بأنوارها فغلبت أنوارها على نوره»(13).
ولعمرو بن العاص رضي الله عنه مناقب مماثلة، فهذا بعض ما تُعالج به ما قد يقع في قلبك من كلام هذا الرجل، ثم تخيَّر الوقت الملائم للمدارسة معه حول هذه القضايا.
ونسأل اللهَ أن يأخذ بنواصينا جميعًا إلى ما يُحِبُّه ويرضاه. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/216) حديث (17926)، والترمذي في كتاب «المناقب» باب «مناقب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه » حديث (3842) من حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «حديث حسن»، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (1969).
(2) ذكره ابن كثير في «البداية والنهاية» (8/139).
(3) سبق تخريجه 17926.
(4) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/127) حديث (17192) و«فضائل الصَّحابة» (2/913)، وابن حبان في «صحيحه» (16/192) حديث (7210)، والطبراني في «الكبير» (18/251) حديث (628) من حديث العرباض بن سارية ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/356) وقال: «رواه أحمد والطبراني وفيه الحارث بن زياد ولم أجد من وثقه ولم يرو عنه غير يونس بن سيف وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف».
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الجهاد والسير» باب «ركوب البحر» حديث (2895)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «فضل غزو البحر» حديث (1912).
(6) أخرجه البخاري في كتاب «الجهاد والسير» باب «ما قيل في قتال الروم» حديث (2924).
(7) «فتح الباري» (6/102).
(8) ضاق بالأمر وضاق به ذرعًا وضاق صدره به: تألم أو ضجر منه أو شق عليه و عجز عنه.
(9) حصر فلانٌ حصرًا: ضاق صدره و بخل.
(10) عَصَّ يَعَصُّ عَصًّا وعَصَصًا: صَلُبَ واشْتَدَّ.
(11) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (11/453) حديث (20985).
(12) ذكره ابن خلِّكان في «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» (3/33)، وأخرجه الآجري في «الشريعة» (5/2466) حديث (1955) بلفظ: «تراب دخل في أنف معاوية رضي الله عنه مع رسول الله خير- أو أفضل- من عمر بن عبد العزيز».
(134) «حاشية محب الدين الخطيب على كتاب العواصم من القواصم» ص95.