سؤالي يتعلق بطريقة تقديم الإسلام في المجتمعات الغربية وطريقة عرضه على غير المسلمين، فبعد نقاش مع بعض الإخوة اختلفنا في نقطة رئيسية، وجهة نظري كانت أن المسلم مطالب بأن يعرض رسالة الإسلام كاملة بدون زيادة أو نقصان، فمثلًا عندما نُسأل عن الحدود في الإسلام نبين وجهة نظر ديننا الحنيف في أهمية ردع المجرمين، وكيف أن رخاوة القوانين الغربية اليوم تشجِّع الناس على الإجرام والظلم، مع التوضيح لهم بأن هذه الحدود تحديدًا لها شروط وضوابط وفيها من الرحمة مثل ما فيها من الشدة.
أما هؤلاء الإخوة فرأوا أننا يجب ألا نجيب بدقة عن هذا السؤال، بل نقول لهم: إن ظروف تطبيق هذه الحدود كانت ظروفًا خاصة لها علاقة بمجتمعات معينة وأوقات معينة، فيجب فهمها في ظل الأجواء والملابسات، وكان رأيهم أيضًا بأن التركيز يجب أن يكون على الأمور المتفق عليها، والتي يستطيع عقل الإنسان الغربي اليوم أن يستوعبها، أما الجواب بشكل واضح- مثل ما بيَّنت أنا- ففيه من وجهة نظرهم تشتيت لفكر غير المسلمين، وصرفهم عن لُبِّ وجوهر الإسلام الذي هو الشهادتين، وأن الرسول ﷺ كان يقبل بهما فقط دون الدخول في التفاصيل.
فما هو حكم الشرع في هذه المسألة؟ هل يجوز التكتم أو التمويه في بعض الأحكام الشرعية مثل نظام العقوبات أو الحدود وتفاصيل الحجاب وغيرها، والقول مثلًا بأن الحشمة هي الهدف؟ أم أن الإنقاص في الرسالة هو نوع من خيانة الأمانة؟ فالتحريف يكون بالزيادة والنقصان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فلا أحسب أن صاحبك قد تقصَّد الخيانة أو الكتمان، بل لكل منكما اجتهاده الذي أرجو أن يؤجر عليه مرتين في حال الإصابة ومرة واحدة في حال الخطأ.
إن العالم لا ينبغي أن ينفكَّ أيها الحبيب عن تأمل الظروف المحيطة بالدعوة والمدعوين، فيوازن بين ما تقتضيه أمانة البلاغ المبين من ناحية، وقدرة المدعوين على الاستيعاب وتمكنهم من الأداء من ناحية أخرى؛ فقد يُؤخِّر إبلاغ بعض الأشياء إلى أن يتهيَّأ ذهن المخاطب لاستقبالها، أو يتمكن من العلم بها، فالكتمان المرحلي لبعض المعالم حتى لا يُساء فهمه من أمور السياسة الشرعية، وفي تكتُّم بعض الصحابة أحاديث التبشير خشية أن يسيء الناس فهمها وأن يتكلوا عليها ويتركوا العمل، وإقرار النبي ﷺ لهم دليل على ذلك، وبناء على ذلك فقد يكون الجواب المجمَل عن مثل هذه المشتبهات أولى في بعض المواقف ومع بعض المدعوين، إلى أن يتمكن غِراس التوحيد في قلبه ويتهيأ لاستقبال تفصيلات هذه الشرائع.
وحسبك من هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أسوقه لك بنصه، فإنه نافع ومفيد، يقول :: «فالعالِـم تارة يأمر وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن، إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكفَّ والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر، فالعالِم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخِّر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكُّن، كما أخَّر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله ﷺ تسليمًا إلى بيانها. يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15].
والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله والقدرة على العمل به.
فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلًا (وهذه أوقات الفترات) فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما، كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا فشيئًا بمنزلة بيان الرسول ﷺ لما بعث به شيئًا فشيئًا، ومعلوم أن الرسول ﷺ لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يُلقَّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالِم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع.
ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبًا في الأصل. والله أعلم.
ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علمًا وعملًا أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد فإذا لم ير العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر به أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة ولا ينهى عنه؛ إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده ولا أن يوجب عليه اتباعه، فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها، بل هي بين الإباحة والعفو. وهذا باب واسع جدًّا فتدبره»(1). اهـ.
زادكم الله حرصًا وتوفيقًا، والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) «مجموع الفتاوى» (20/58).