كل عام أنتم بخير، نحن الآن على أعتاب ليلة النصف من شهر شعبان المكرم، وقد اعتدنا منذ سنوات طويلة أن نُحْيي هذه اللَّيلة المباركة بأن نقرأ بعد صلاة مغرب تلك اللَّيلة سورة «يس» ثلاثَ مرَّات: الأولى بنية طول العمر، والثَّانية بنية دفع البلاء، والثَّالثة بنية الاستغناء عن النَّاس. وكلما نقرأ السُّورة مَرَّة نقرأ بعدها الدُّعاء المعروف مَرَّة، وهو: اللَّهُمَّ يا ذا المنِّ ولا يُمَنُّ عليه، يا ذا الطَّوْل والإنعام… إلخ.
فهل إحياء هذه اللَّيلة بهذه الطَّريقة من البدع، أم لا؟ أم أن الدُّعاء في هذه اللَّيلة بهذا الأسلوب يرفع البلاء ويدخل في إطار الأقدار الـمُعلَّقة؟ جزاكم اللهُ خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد نُقل إحياء هذه اللَّيلة بالاجتهاد في التعبد عن بعض السَّلَف، وإن كان جمهورُهم على خلاف ذلك، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه «لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف» في هذه المسألة: «وليلة النصف من شعبان كان التَّابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يُعظِّمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ النَّاسُ فَضْلَها وتعظيمها، وقد قيل: إنهم بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية. وأنكر ذلك أكثرُ علماء الحجاز، منهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالكٍ وغيرهم(1)، وقالوا: ذلك كلُّه بدعة. ولا يُعرف للإمام أحمد كلامٌ في ليلة النصف من شعبان… إلى أن قال:: قيام ليلة النصف لم يَثبُت فيها شيءٌ عن النَّبيِّ ﷺ ولا عن أصحابه»(2).
والقراءة المذكورة على النَّحو المذكور لا أصل لها. واعلم أن اقتصادًا في سُنة خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة، ولله دَرُّ القائل:
وخير أمور الدين ما كان سنة
وشرُّ الأمور المحدثات البدائع(3)
وفَّقَنا اللهُ وإيَّاك إلى ما يُحِبُّه ويرضاه. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال في «مواهب الجليل» (2/73): «ص: (وجمع كثير لنفل أو بمكان اشتهر) ش: يريد: وكذلك في الأوقات التي جرت عادة الناس بالجمع للنافلة فيها، وصرح العلماء بأن ذلك بدعةٌ. قال في «الذخيرة» في باب صلاة النافلة: قال في الكتاب: يصلي النافلة جماعة ليلًا أو نهارًا. قال ابن أبي زمنين: مراده: الجمع القليل خُفيَةً كثلاثة؛ لئلَّا يظنه العامة من جملة الفرائض؛ ولذلك أشار أبو الطاهر- يعني ابن بشير- وقال: لا يختلف المذهب في كراهة الجمع ليلة النصف من شعبان وليلة عاشوراء، وينبغي للأئمة المنع منه. انتهى».
(2) ص (137).
(3) هذا البيت لمحمود قابادو، وهو من بحر الطويل.