أرجوك يا شيخ، الآن عندي مشكلة، وأشعر أنها كبيرة جدًّا، أنا أصلي وأقرأ القرآن، لكن في بعض الأوقات وأثناء قراءة القرآن أقول: أنا أقرأ وأصلي لأنني أريد شيئًا من الله، وليس لثقتي في الله. وأعوذ بالله طبعًا، وبعد ذلك، أنا أختنق وأستعيذ بالله، وأرجع للاستكمال، وغير هذا أقول كلامًا غريبًا أنا لا أستطيع أن أحكيه لك، وهذا الأمر يحدث لي منذ زمن طويل لكني أستطيع التغلب عليه وأكمل، ولا أقول: لا، حدث لي ولن أقرأ.
هل كل هذا يكون فعلًا مثلما يخيل لي أو أعوذ بالله وأستغفر أني أكذب بقدرة الله؟ أنا متعبة جدًّا ولا أستطيع الاحتمال. أفدني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فدعي عنك يا بنيتي هذه الوساوس، واعلمي أن اللهَ جل وعلا تجاوز لهذه الأمة عما حدَّثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به(1)، وإن بعض الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قريب من ذلك، فذكروا له أن أحدهم يجد في نفسه ما يتعاظم أن ينطق به، ويود لو يخر من جبل ولا يجده، فقال: «أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»(2). أي أن مغالبتكم له، وقهركم له، وثباتكم على الحق الذي هديتم إليه، ذلك محض الإيمان أو صريح الإيمان.
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: «فقوله صلى الله عليه وسلم : «ذلك صريح الإيمان»، و«محض الإيمان»(3) معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به، فضلًا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالًا محققًا وانتفت عنه الريبة والشكوك»(4).
قال الخَطَّابي: «المراد بصريح الإيمان: هو الذي يعظم في نفوسهم إن تكلموا به، ويمنعهم من قبول ما يُلقي الشيطان، فلولا ذلك لم يتعاظم في نفوسهم حتى أنكروه، وليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، بل هي من قِبَل الشيطان وكيده»(5).
وبكلام الخطابيِّ هذا يعلم أن الذي دل على صحة الإيمان هو تعاظم هذه الوساوس وردها، وأن عدم تعاظمها والسماح للنفس بالاسترسال فيها يدل على ضعف الإيمان.
فالمقصود من الحديث أن كراهية هذه الوساوس وبغضها والنُّفور منها هو صريح الإيمان، وليس المراد أن وجودها هو صريح الإيمان، اللَّهُمَّ إلا إذا تحوَّلت بعض هذه الوساوس إلى شبهات قارَّة فعندئذٍ يلزمك التماس العلاج منها عند أهل العِلْم وحملة الشَّريعة.
وبناء على ما تقدم فإن كنت ممن يستعظم أمر تلك الوسوسة، ويخاف من ورودها عليه، ومن النطق بها، ويدفعها عنه قاطعًا سبيلها إلى قلبه ومعتقده الإيماني الراسخ، رافضًا لها، متعوذًا بالله من الشيطان- فأنت صاحبة إيمان صريح، ولك بسلفنا من الصحابة رضوان الله عليهم أسوة حسنة.
أما إن كنت ممن يتابع الوسوسة، ويتكلم بها، ويصل معها إلى درجة الشك التي تزعزع أركان اليقين، وتخالف التوحيد، فذاك من ضعف الإيمان، ويخشى على من يكون كذلك من الشرك، ومتابعة الشيطان فيما يلقي إليه من وسوسة.
واعلمي يا بنيتي أن اللهَ جل وعلا أرحم بعباده من آبائهم ومن أمهاتهم، وأنه لم يجعل على عباده في الدين من حرج(6)، وأن الشَّيطان يريد أن يبغض إليك عبادة ربك فاحذريه على دينك، إنه يسوءه أن يراك خاشعة راكعة ساجدة أو ذاكرة فيريد أن يقطعك عن هذه الأعمال الصَّالحات فاحذريه على نفسك، واستعيذي بالله منه إذا وجدت شيئًا من ذلك، وقولي: الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة(7)، واحذري أن تنقطعي عن العمل الصَّالح بسبب هذه النفثات الشَّيطانية.
واعلمي أن من دافع الوسوسة اندفعت عنه بفضل الله وتثبيته، وخنس عنه الشيطان، ويئس منه في هذه السبيل، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].
ونسألُ اللهَ أن يمسحَ عليك بيمينه الشَّافية، وأن يجمعَ لك بين الأجر والعافية. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الطلاق» باب «الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون» حديث (5269)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب» حديث (127) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، بلفظ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَـمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ».
(2) أخرجه مسلم (123).
(3) أخرجه مسلم (123).
(4) «شرح النووي على صحيح مسلم» (2/154).
(5) انظر: «فتح الباري» (13/273).
(6) قال تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78].
(7) أخرجه أبو داود (5112). وقال ابن حجر في تخريج المشكاة (1/78): إسناده صحيح.