ما حكم هذا القول: أن يقول شخص لآخر: تخسر دينك لو فعلت كذا. ويفعلها، هل يكون قد كفر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإنه لا يجوز للمسلم أن يُقسم أو أن يحمل غيرَه على القسم بغير الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الـمُتَّفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنه : «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِالله أَوْ لِيَصْمُتْ»(1)، وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فَقَدْ كَفَرَ» أو «أَشْرَكَ»(2).
وأقبح من ذلك وأنكره أن يحلف بالكفر أو أنه يفقد دينه أو يكون يهوديًّا أو نصرانيًّا إن فعل كذا أو إن لم يفعل كذا، فقد روى أبو داود والنَّسائيُّ عن بريدة رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ- عقوبةً له على كذبه- وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِـمًا»(3).
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(4).
وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن هذا النَّوعَ من الأيمان لا كَفَّارة له لعِظَمه وتغليظ تحريمه، وذهب جماعةٌ إلى أن فيه كَفَّارةَ يمين، وبه قال أحمد(5) والأحناف(6) وإسحاق وسفيان والأوزاعيُّ(7).
وننصح من تورَّط في شيءٍ من ذلك بالتَّوْبة إلى الله عز وجل ، وإخراج كَفَّارة اليمين احتياطًا.
ونسأل اللهَ أن يأخذ بنواصينا جميعًا إلى ما يُحِبُّه ويرضاه، وأن يُجنِّبنا الزَّيْغ والزَّلَل في القول والعمل. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الشهادات» باب «كيف يستحلف» حديث (2679)، ومسلم في كتاب «الأيمان» باب «النهي عن الحلف بغير الله» حديث (1646)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (6646)، ومسلم (1646).
(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/355) حديث (23060)، وأبو داود في كتاب «الأيمان والنذور» باب «ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام» حديث (3258)، والنسائي في كتاب «الأيمان والنذور» باب «الحلف بالبراءة من الإسلام» حديث (3772)، وابن ماجه في كتاب «الكفارات» باب «من حلف بملة غير الإسلام» حديث (2100)، والحاكم في «مستدركه» (4/331) حديث (7818)، من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه ، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، وذكره العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (2/836) وقال: «إسناد صحيح».
(4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الجنائز» باب «ما جاء في قاتل النفس» حديث (1364)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه» حديث (110).
(5) قال ابن قدامة في «الكافي» (4/192): «وإن حلف بالخروج من الإسلام، فقال: هو بريء من الإسلام، أو كافر، أو يهودي، إن فعل- أَثِم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ» متفق عليه…وهل تنعقد يمينه موجبة للكفارة؟ فيه روايتان: إحداهما: تنعقد؛ لما روى أبو بكر بإسناده عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن الرجل يقول: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه الأشياء، قال: «عليه كفارة يمين». والثانية: لا كفارة عليه؛ لأنه لم يحلف باسم الله، ولا صفته، فأشبه الحالف بمحو المصحف»».
وجاء في «شرح منتهى الإرادات» للبهوتي من كتب الحنابلة (3/443): «(وتَنعَقِد) اليمينُ بحلفٍ (على عَدَمِه) أي: المستحيل لذاتٍ أو عادةٍ كقوله: والله لأشربن ماء الكوز. ولا ماء فيه، أو لأردُدَنَّ أمس أو لأقتلن فلانًا الميت أو إن لم أفعل ذلك ونحوه. (وتَجِبُ الكفَّارةُ) عليه بذلك (في الحال) لاستحالة البر في المستحيل، (و) كذا (كلُّ) مقالةٍ (مكفَّرةٍ) بفتح الفاء المشددة أي: تدخلها الكفارة كالظِّهار، وقوله: هو يهودي أو بريءٌ من الإسلام أو نحوه (كيمينٍ بالله)».
(6) جاء في «مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر» من كتب الحنفية (1/545): «(وكذا قوله: إنْ فَعَل كذا) أي: إنْ دَخَل الدَّار مثلًا (فهو كافرٌ أو يهوديٌّ أو نصرانيٌّ) أو مجوسيٌّ أو غيرها (أو بَرِيءٌ من الله) أو من الرُّسُل أو من الإسلام أو من المؤمنين أو من لا إله إلا الله أو من الصلاة أو من القبلة أو من صوم رمضان أو من غيرها، ممَّا إذا أنكره صار كافرًا- يمينٌ يستوجِب الكفَّارة إذا حَنِث إنْ كان في المستقبل، فأمَّا في الماضي لشيءٍ قد فَعَلَه فهو الغَمُوس ولا يكفُر». وانظر: «تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق»، و«حاشية الشلبي» (3/111)، و«الاختيار لتعليل المختار» (4/52).
(7) قال ابن قدامة في «المغني» (9/507): «مسألةٌ؛ قال: (أو بالخُروج من الإسلام) اختلفت الروايةُ عن أحمد، في الحلف بالخُروج من الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، إن فَعَل كذا أو: هُو بريءٌ من الإسلام، أو من رسُول الله رضي الله عنه أو من القرآن إن فَعل. أو يقول: هو يعبُد الصليب، أو يعبُدك، أو يعبُد غير الله تعالى إنْ فَعَل. أو نحو هذا، فعن أحمد: عليه الكفارةُ إذا حنث. يُروى هذا عن عطاءٍ، وطاوُسٍ، والحسن، والشعبي، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. ويُروى ذلك عن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه . والرواية الثانية: لا كفارة عليه. وهو قولُ مالكٍ، والشافعي، والليث، وأبي ثورٍ، وابن المنذر؛ لأنهُ لم يحلف باسم الله، ولا صفته، فلم تلزمهُ كفارةٌ، كما لو قال: عصيت الله فيما أمرني. ويُحتمل أن يُحمَل كلامُ أحمد في الرواية الأُولى على الندب، دُون الإيجاب؛ لأنهُ قال، في رواية حنبلٍ: إذا قال: أكفُرُ بالله، أو أُشرك بالله. فأحب إلي أن يُكفر كفارة يمينٍ إذا حنث». وانظر: «المجموع شرح المهذب» (18/20).