بسم الله الرحمن الرحيم، السادة العلماء، نرفع لفضيلتكم نازلتنا؛ نلتمس بيان الحكم الشرعي الصحيح أفيدونا أفادكم الله:
أعمل باحثًا في مجال البحوث الشرعية تحت إشراف أساتذة متخصصين، وأسأل عن بعض الأمور:
أولًا: أحيانًا تدفع إليَّ فكرة ما مع بعض العناصر العامة، وأحيانًا النتيجة أو الرأي المطلوب التوصل إليه، فأقوم بمعالجة الفكرة ووضع خطة لها وعمل بحث عليها، ثم يدفع البحث للأستاذ فيطلب مني بعض التعديلات على البحث فأقوم بها، ثم في النهاية ينسب البحث إليه هو؛ لأنه صاحب الفكرة فقط، وقد تكون الفكرة عادية مطروقة، ولكن الصعوبة في معالجتها، واستخراج النصوص المناسبة لها.
ثانيًا: أحيانًا أعمل بحثًا على فكرة ما، يطلب مني أن أتوصل من خلال البحث إلى نتيجة مسبَّقة، فأتوصل عن طريق ترتيب الأدلة إلى النتيجة المطلوبة، لكني أحيانًا لا أكون مقتنعًا من داخلي بصوابها، بل فقط أبحث عن الأدلة الداعمة للمطلوب مني.
ثالثًا: قد أقوم بعمل بحث تكون قيمته في فكرته، فمن اليسير تجميع المادة العلمية لمن له دراية بالبحث، ولكن فكرة البحث هي التي تجعل له ثقلًا، وتحتاج إلى إعمال فكرة وحس فقهي لا يوجد إلا لدى من له ثقل وكعب عالٍ بالصناعة الفقهية.
رابعًا: يسأل أحدهم ممن يتولى أمر الدعوة في ثغر من ثغورها؛ بأن دفع إليه مبلغ 10000جنيه لدفعها لطلبة العلم، فاشترى بها كتبًا علمية لتعليم المسلمين وتثقيفهم، وذلك دون رجوع أدنى مصلحة عليه- متأولًا ذلك- ويسأل هل يختلف الحكم إذا كانوا- الطلاب- معينين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فزادك الله يا بني حرصًا وتوفيقًا، ولا يخفى عليك ابتداء أن من بركة العلم أن يضاف الشيء إلى قائله، كما ذكر ذلك ابن عبد البر :، وقد كانت غيرتهم على بنات الأفكار كغيرتهم على البنات الأبكار، كما ذكر ذلك أبو القاسم الحريري :، فليس من شكر العلم سرقته، وليس من بركته انتحاله، بل ذلك من علامات الخذلان فيه.
ولله در القائل:
إذا أفادك إنسان بفائدة
من العلوم فأكثر شكره أبدَا
وقل فلان جزاه الله صالحة
أفادنيها وألق الكبر والحسدَا( )
بعد هذه المقدمة نرجع إلى سؤالك فنقول وبالله التوفيق:
بالنسبة إلى ما ذكرته أولًا من أنه قد تدفع إليك فكرة ما مع بعض العناصر العامة، وأحيانًا النتيجة أو الرأي المطلوب التوصل إليه فتقوم بمعالجة الفكرة ووضع خطة لها وعمل بحث عليها، ثم تدفع البحث للأستاذ فيطلب منك بعض التعديلات على البحث فتقوم بها، ثم في النهاية ينسب البحث إليه هو؛ لأنه صاحب الفكرة فقط، وقد تكون الفكرة عادية مطروقة، ولكن الصعوبة في معالجتها، واستخراج النصوص المناسبة لها- فلا يظهر لنا وجه للقول بجواز ذلك؛ لأن هذا بمعايير البحث العلمي في زماننا يعد من قبيل السرقات العلمية، بل تتعين الإشارة إلى من شاركوا في إعداد هذه الدراسة وتجهيزها، ويكون البحث منسوبًا إلى الجميع، فهذا هو المخرج من مثل ذلك، لاسيما إذا كان سيترتب على هذا البحث بعض الاستحقاقات العلمية أو الأدبية، كالترقية لدرجة علمية معينة أو نيل هذه الدرجة ابتداء ونحوه.
أما بالنسبة إلى ما ذكرته ثانيًا: من أنه قد يطلب منك أحيانًا أن تقوم بعمل بحث لتتوصل من خلاله إلى نتيجة مسبَّقة، فتتوصل إليها عن طريق ترتيب الأدلة على نحو يفضي إلى هذه النتيجة المطلوبة، لكنك لا تكون مقتنعًا من داخلك بصوابها، بل فقط تبحث عن الأدلة الداعمة للمطلوب منك- فلا يظهر لنا كذلك وجه لجواز مثل هذا العمل، لاسيما فيما تفاحش ضعفه واعتبر من قبيل الزلات؛ لأن العلم أمانة ونتائجه ديانة، فلا يجوز لك أن تسود الصحائف في نصرة ما تعتقد بطلانه ويترجح لديك تهافته وفساده، ويزداد الأمر قبحًا إذا كان مثل ذلك في مجال العلوم الشرعية؛ لأنه قد يتضمن من الكذب على الله أو القول عليه بغير علم بل بما تعلم خلافه وما تستنكره الفطر والعقول والشرائع.
أما بالنسبة إلى ما ذكرته ثالثًا: من أنك قد تقوم بعمل بحث تكون قيمته في فكرته، حيث يكون من اليسير تجميع المادة العلمية لمن له دراية بالبحث، ولكن فكرة البحث هي التي تجعل له ثقلًا، وتحتاج إلى إعمال فكرة وحس فقهي لا يكون إلا لدى من له ثقل وكعب عالٍ بالصناعة الفقهية، فالذي يظهر لنا أن هذا أيسر نسبيًّا مما جاء في الاستفسار الأول، ومع هذا فلابد من الإشارة ولو في مقدمة الدراسة أو في كلمة الشكر التي تصدر بها في العادة مثل هذه الأعمال إلى جهود من شاركوا في إعداد هذا البحث، وتضافرت هممهم على إخراجها.
كان ما سبق هو حكم الأحوال العادية، أما من كان في ضرورة إلى هذا العمل ولا يجد بديلًا مناسبًا، فإن له أن يبقى فيه حتى تذهب ضرورته، ويتيسر له بديل مناسب مع بذل جهده واستفراغ وسعه في تحصيل هذا البديل، ونرجو أن يسعه عفو الله عز وجل في هذه المرحلة الانتقالية.
أما بالنسبة إلى ما جاء في الاستفسار الرابع عمن يتولى أمر الدعوة في ثغر من ثغورها وقد دفع إليه مبلغ 10000 جنيه لدفعه لطلبة العلم، فاشترى بها كتبًا علمية؛ لتعليم المسلمين وتثقيفهم، وذلك دون رجوع أدنى مصلحة عليه متأولًا ذلك ويسأل هل يختلف الحكم إذا كانوا- الطلاب- معينين؟ فالذي يظهر لنا أنه لا حرج في ذلك ما دام المتبرِّع لم يُعين وجهًا بعينه من وجوه الإنفاق وإنما ترك ذلك لاجتهاد الناظر وتدبيره، وإذا كان قد وجهه لإنفاقها في مصالح طلاب بأعينهم فإنه يلزمه أن يكون توزيع هذه الكتب في حُدود هؤلاء الطلاب وحدهم دون سواهم، إذا كان قد قدر أن مصلحتهم في اقتناء هذه الكتب ظاهرة. والله تعالى أعلى وأعلم.