مشاركة المسلمين في الحياة السياسية

سيدي الفاضل، أنا شاب في الخامسة والعشرين من العمر، أعمل نائبًا للجراحة في القاهرة، أحب الإسلام وأريده أن يسود العالم وأحب السلفية ونقاءها والتزامها بالدليل وعدم تعصبها للأشخاص.
منذ خمس سنوات وأنا أطلب العلم الشرعي وقطعت بحمد الله شوطًا لا بأس به، وعندما قرأت لك بعض مقالاتك استحضرت الحكمة التي تقول: «إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق»، فلم أكن قد سمعت بك من قبل ولكني وجدتك سلفيًّا في موضوعيتك والتزامك بالدليل واحترامك للآخر.
وحتى لا أطيل عليك فسأدخل في الموضوع ألا وهو خمسة أسئلة عن مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية:
1. ألا يستطيع الإسلاميون المشاركة في الحياة السياسية بدون دخول البرلمان؟
2. هل يستطيع الإسلاميون دخول البرلمان بدون تمييع قضية الحاكمية؟
3. هل يجب على الإسلاميين قبل أن يدخلوا الحياة السياسية أن يدفعوا الضريبة التي هي المداهنة في الدين والتنازل عن الثوابت، مثل أن الله هو مصدر التشريع وليس الشعب وعقيدة الولاء والبراء ورفض حرية الإلحاد والكفر بدعوى حرية الفكر، وتحريم الربا والخمر والزنى والعري؟
4. هل فعلًا حصاد تجربة الإسلام السياسي غير مشجع، وأن الغرب يرفع شعار لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية، كما رفع جمال عبد الناصر شعار لا حرية لأعداء الحرية، وأنهم تساهلوا مع تجربة الإسلام السياسي في الكويت لأن الكويت دولة غير مؤثرة في المنطقة، أما إذا تعلق الأمر بإحدى الدول المؤثرة مثل مصر فإنها سوف تلقى نفس مصير الجزائر؟
5. الدعوة السلفية لا تستطيع دخول الحياة السياسية لأن ذلك يتطلب مناورات قد تؤدي إلى ازدواجية بين الخطاب الدعوي والخطاب السياسي، مما سيفقد السلفية دورها الرئيسي وهو حراسة الدين والحفاظ عليه من التحريف والتبديل لتتسلمه الأجيال نقيًّا واضحًا، فهل هذا صحيح؟
إن عدد الشباب السلفي في مصر كبير جدًّا وهم كالمارد في القمقم، وإن خروجه إلى الحياة السياسية واتحاده مع شباب الإخوان سوف يقلب الموازين ويحرك المياه الراكدة.
إن هذا القطاع العريض يستحق المجهود العملاق ليستقطب إلى الحياة السياسية ولن يستقطب إلا بخطاب سلفي.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فسأجيب عن أسئلتك على نفس ترتيب ورودها:
1- الحياة السياسية تعبير مجمل، ويختلف مضمونها من مجتمع إلى آخر، ولها تجليات مختلفة، فقد تتجسد في المشاركة الفكرية فيما يجري من أحداث عامة من خلال الكتابة في الصحف وعقد الندوات وإصدار المجلات… إلخ، وقد يقصد بها تأسيس الأحزاب السياسية التي تستهدف الدخول في المعترك البرلماني والوصول إلى موقع القيادة بغية وضع برنامجها السياسي موضع التنفيذ، وقد يقصد بها دون ذلك من المشاركة في البلديات ونحوها على المستوى المحلي لتحقيق بعض الإصلاحات الجزئية.
والمشاركة السياسية تختلف باختلاف غاياتها، وثمة منهجان في تصور هذه الغايات: منهج يرى أنها الطريق لإقامة الدين وتحكيم الشريعة، ومنهج يرى أنها وسيلة لتحصيل بعض المصالح وتكميلها ودفع بعض المفاسد وتقليلها، وأن السبيل لإقامة الدين لا يتسنى من خلال صناديق الاقتراع، وإنما هو طريق آخر.
والذي يظهر لي أن العمل السياسي أيًّا كانت تجلياته لا يفضي بذاته إلى إقامة الدين وتحكيم الشريعة، وإنما هو سبيل لتحقيق بعض المصالح الجزئية، كدفع بعض المفاسد أو رفع بعض المظالم أو تحقيق بعض المصالح ونحوه، وأنه من قبيل السياسة الشرعية التي تدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتتقرر شرعيته في ضوء هذه الموازنة، فإن غلبت مصالحه على مفاسده أجيز، وإن غلبت مفاسده على مصالحه منع، وتختلف فيه الفتوى باختلاف الزمان والمكان والظروف والأحوال.
2- يختلف الجواب عن هذا السؤال باختلاف حظ المنتصبين لأداء هذا العمل من التربية والتزكية، فمن تربى في إطار سلفي وتحقق بمعاني التوحيد سيكون أقل من غيره عرضة لمثل هذه التراجعات، ومن تربى على الكتب الفكرية البحتة والثقافات الشرعية العامة يكون أكثر عرضة للتفلت والاحتواء تحت شعار الاستنارة والمرونة وعدم التطرف ومعرفة الواقع.. إلخ.
ولكن من الضرورة بمكان تحديد مفهوم الحاكمية بشكل دقيق حتى لا يحدث لبس فندخل فيها ما ليس منها أو نخرج منها ما هو من صميمها.
3- تعلم الإجابة عن هذا السؤال من الإجابة السابقة، ومن دراسة حصاد التجارب السابقة، وتختلف من مجتمع إلى آخر باختلاف الهامش المتاح من الحرية من ناحية ومدى هيمنة الثقافة العلمانية من ناحية أخرى.
4- هذا الذي يبدو لي بادي الرأي، ولكن إذا وضع المشتغلون بهذا العمل نصب أعينهم أنه ليس هو السبيل لإقامة الدين وإنما هو سبيل إلى استصلاح جزئي للأحوال بتحقيق بعض المصالح ورفع بعض المظالم ودفع بعض المفاسد فسوف يؤدي هذا إلى مزيد من الواقعية من ناحية وينعكس على صفوف الإسلاميين بمزيد من الترابط من ناحية أخرى، ثم تكون الموازنة بعد ذلك بين ما يستجلب من المصالح ويستدفع من المفاسد من خلال الحضور الإسلامي على المسرح السياسي من ناحية، وما يتوقع من المفاسد نتيجة الاشتغال بهذا العمل وخوض معتركه من ناحية أخرى.
5- إن الله قسَّم الأعمال كما قسم الأرزاق، ولو تأملت ما يجري في ساحات الدعوة في مختلف المواقع لرأيت أن يد الله تعمل في هذه الساحات ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة.
إن الأمة في حاجة ماسة إلى فريق يرابط على ثغر البيان للدين يرد عنه تحريف الغالين وتأويل المبطلين وانتحال الجاهلين، ومثل هذا الفريق الذي تمحض للبيان ووراثة النبوة في جانب البلاغ خير له ألا يشتغل بهذه المعارك السياسية وألا يخوض غمارها وألا يصيبه رذاذها، ليبقى نقيًّا خاليًا من الشوائب، لا يحمله طمع ولا فزع على مداراة أو مناورة وهو في مقام البلاغ وإقامة الحجة.
ومن ناحية أخرى فإن الأمة في حاجة إلى من يرابط على ثغر إقامة المصالح العامة ومجالدة المبطلين على المستوى السياسي والاقتصادي ونحوه، وقد يقبل من هؤلاء من الترخصات ما لا يقبل من الفريق الأول، ويبقى واجب التناصح بين الفريقين وإدراك كل منهما لطبيعة الدور الذي أنيط به والذي أنيط بأخيه ليتفهم طبيعة موقعه ومقتضيات وجوده فيه، وليكون بينهما من التراحم والتناصح ما يتحقق به التكامل المنشود في معترك العمل الإسلامي المعاصر، أو على الأقل ما يندفع به التهارج المذموم الذي تتشرذم به الصفوف ويفضي إلى الفشل وذهاب الريح. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend