قضية الخروج على الحكام: تنظيرها بالأدلة والردود والترجيح(1)

أثَارَ الربيع العربي كثيرًا من قضايا السياسة الشرعية، ومنها ما هو جديد، ومنها ما هو مُعاد، ومن ذلك قضيةُ الخروج على الحكَّام وموقف أهل السنة في هذه القضية، ومدى اعتبار ما وقع في دول الربيع العربي خروجًا على السُّنة وأقوال علمائها في هذه القضية.
لقد بحثتُ كثيرًا ووجدتُ اختلافات عديدة، وقد تعرض لكم شخصيًّا بعضُ المواقع بما لا أحِبُّ أن أذكره لكم، فالرجاء أن تحدثونا تفصيليًّا في هذه القضية بما يرفع الالتباسَ، وتتجلى به الحقيقةُ في هذه القضية الشائكة. بارك الله فيكم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلي كتاب منشور تحت عنوان: «الوجيز في فقه الإمامة العظمى» وهو متاح على الإنترنت، ويمكن لمن شاء أن يرجع إليه، كما يمكن لمن شاء أن يراجع كاتبَه إذا عرض له سؤال أو استشكال، أو أراد النصح لكاتبه، فالعلم رحمٌ بين أهله، ورحم الله امرءًا أهدى إلينا عيوبنا.
وقد بحثت هذه القضية تحت عنوان: «عزل الإمام»؛ فتحدثت عن عزل الإمام بالكُفر وعما ورد من خلاف في عزله بالظلم والفسق، وفيما يلي إشارةٌ مجملة إلى هذا وإلى ذاك.
الأصل أن عقد الإمامة لازمٌ لا اختيار في حلِّه من غير سبب يقتضيه، ما دام هذا العقد قد أُبرم على سبيل التأبيد؛ ولا حرج في الاتفاق من البداية على كون البيعة إلى ميقات معلوم، فلا يجوزُ أن ينازع الأئمة ما استقاموا على حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولا سبيل لأحد إلى خلعهم في هذه الحالة باتفاق الأئمة، وإلا كان ذلك منه نكثًا للصفقة، وخروجًا على جماعة المسلمين، وللإمام حسمُ فتنته بما تحسم به من الكلمة إلى السيف.
إلا أن أمورًا قد تطرأ على الإمام يزول بها مقصود الإمامة، فيصبح الإمام معزولًا أو مستحقًّا للعزل، ومن هذه الأمور:
أولًا: الــــردَّة:
فلا شكَّ أن الإسلام هو الأصل والعصام، فلو فُرض انسلالُ الإمام عن الدين لم يخف انخلاعه، وارتفاع منصبه وانقطاعه، ولو جدَّد إسلامًا بعد ذلك لم يعد إمامًا حتى يجدد اختياره.
قال تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141].
ولا سبيلَ أعظمُ من سبيل الإمامة، لأن الإمام منتدبٌ لحراسة الدين، فكيف يحرسه من هو كافر به؟!
وفي «صحيح البخاري» من طريق جنادة بن أبي أمية قال: ثم دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض قلنا: أصلحك الله؛ حدِّث بحديث ينفعك الله به، سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم . قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم  فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في مَنشطِنا ومكرَهِنا وعُسرِنا ويُسرنا وأثرة علينا؛ وألا ننازع الأمر أهلَه إلا أن ترَوْ كُفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان(1).

قال القاضي عياض: «أجمع العلماءُ على أن الإمامةَ لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر ينعزل»(2).

وقال الحافظ ابن حجر: «إنه ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلمٍ القيامُ في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثوابُ، ومن داهن فعليه الإثمُ، ومن عجز وجبت عليه الهجرةُ من تلك الأرض»(3).
ومما هو جديرٌ بالذكر أن القيامَ في عزل الحاكم بالرِّدة لا يتولاه أوزاع متفرقون، لا يضبطهم ضابط، ولا يجمع شتات أمرهم جامع، ولا يملكون من العدة ما يتوقعون معها الظفرُ بغير مفاسد راجحة، فما شُرِع الجهاد في الشريعة ليكون مجرَّدَ مشروع استشهاد فحسب، وإنما شُرِع لإقامة الدين وإخزاء الكافرين، وشفاء صدور المؤمنين، فإذا لم يُؤَدِّ الجهاد إلى هذه المقاصد لم يكن مشروعًا في هذه الحالة، وإنما ينتقل الواجب إلى إعداد العدة، حتى تتهيَّأ أسبابُ الظفر، وتمتهد سُبُل النصر والغلبة.
ثانيًا: الفسق والظلم.
اختلف العلماء في مدى اعتبار الفسق من الأسباب التي تُوجب عزلَ الإمام والخروج عليه، على مذهبين:
• الأول: أن الفسق لا يمنع استدامةَ الإمامة، ولا يجوز الخروجُ على الأئمة بالفسق؛ لما ورد من النهي عن ذلك، ولما يترتب عليه من الفتن وإراقة الدماء. وهو الذي عليه السواد الأعظم من أهل السنة، حتى نقل بعضهم الإجماع على ذلك.

قال النووي: «وأجمع أهل السُّنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق»(4).
وقال ابن تيمية: «ولهذا كان مذهبُ أهل الحديث تركُ الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصبر على ظلمهم، إلى أن يستريح برُّ أو يُســتراح من فــاجر»(5).
• الثاني: أن الفســق يُوجــب عـزل الأئــمة ويفـرض الخروج عليــهم. وهو مذهب الخــوارج، والمعــتزلة، والـزيدية، وبعض أهـل السنة.
أدلة الفريق الأول:
• النصوص التي تأمُر بالصبر على جَوْرِ الأئمة وتنهى عن الخروج عليهم، وهي كثيرة بلغت حدَّ التواتر المعنوي، منها:

حديث عبادة بن الصامت قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم  فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في مَنشطِنا ومكرَهِنا وعُسرِنا ويُسرنا وأثرة علينا؛ وألا ننازع الأمر أهلَه إلا أن ترَوْ كُفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان (6).
قال ابن تيمية: «فهذا أمر بالطاعة مع استئثار ولي الأمر وذلك ظلم منه، ونهي عن منازعة الأمر أهله وذلك نهي عن الخروج عليه»(7).
حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ في جُثْمَانِ إِنْسٍ». قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ»(8).
حديث أم سلمة : قال صلى الله عليه وسلم : ««إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ!». قالوا: ألا نقاتلهم؟ قال: «لَا مَا صَلَّوْا»(9).

حديث ابن عباس: قال صلى الله عليه وسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(10).
• موقف بعض علماء الصحابة وعلماء السلف الذين اعتزلوا الفتنة وتوقفوا عن القتال فيها: كعبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي موسي الأشعري، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وسعيد بن زيد، وأبي بكرة، وعمران بن حصين ونحوهم.
ويذكر كثير من أهل العلم أن هذا هو الذي استقرَّ عليه رأيُ السلف في هذه القضية.
قال ابن تيمية: «ولهذا استقرَّ رأيُ أهل السنة على تركِ القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم»(11).
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمته للحسن بن صالح تعليقًا على ما نسب إليه من أنه يرى السيف: «و هذا مذهب للسلف قديمٌ، لكن استقرَّ الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى ما هو أشد منه»(12).
• أن الفساد الذي يجلبه قتالُـهم أعظمُ من الفساد الواقع بجَوْرِهم، فوجب الصبر وترك القتال دفعًا لأعظم المفسدتين، لاسيما وأن استقراءَ التاريخِ يدلُّ على أن حركات الخروج على الأئمة في التاريخ الإسلامي قد توَلَّد عنها من الشرِّ أضعافُ ما تولد عنها من الخير، ولقد ذكر أبو الحسن الأشعري خمسةً وعشرين خارجًا من آل البيت لم يُكتب لأحد منهم في خروجه نجاحٌ.

قال ابن تيمية: «وقلَّ من خرج على إمام ذي سلطانٍ إلا كان ما تولَّد على فعله من الشرِّ أعظمُ مما تولَّد من الخير؛ كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك في العراق، وكابن المهلَّب الذي خرج على أبيه بخراسان، وكأبي مُسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة. وغاية هؤلاء إما أن يغلِبوا، وإما أن يُغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة»(13).
أدلة الفريق الثاني:
استدلَّ الفريق الثاني على ما ذهب إليه من انعزال الإمام بالفسق ووجوب الخروج عليه بكثير من الأدلة نذكر منها ما يلي:
• عمومات النصوص الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل: قوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَـمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ»(14).

وقوله صلى الله عليه وسلم : «كَلَّا وَالله لَتَأْمُرُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْـمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِـمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْـحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْـحَقِّ قَصْرًا… أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ»(15).
• النصوص الدالة على مجاهدة الظلمة وكفهم عن الظلم مثل:
قوله صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تُخَلَّفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حبَّةُ خَرْدَلٍ»(16).
وقوله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَلَا تُعِينُوهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَلَا تُصَدِّقُوهُمْ بِكَذِبِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، فَلَنْ يَرِدَ عَلَيَّ الْـحَوْضَ»(17). وفي الترمذي بزيادة: «وَمَنْ لَـمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَـمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَلَــمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى الْـحَوْضِ»(18).

النصوص الدالة على التعاوُن على البرِّ والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، ووجوب قتال الفئة الباغية مثل:
قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
وقوله تعالى: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 9].
فقد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية، سواء أكانت مع الإمام أم ضدَّه، فلو خرجت طائفة محقَّة على إمام جائر وجب على المسلمين نُصرتَها.
• موقف الصحابة رضوان الله عليهم إبان الفتنة: فمنهم من كان مع عليٍّ، ومنهم من كان مع معاوية، ومنهم من اعتزل الفتنة، ولم يحتجَّ أحدٌ منهم بأنه لا يجوز الخروج على الإمام إلا بالكفر، لا في قتاله ولا في اعتزاله.

• اعتبار الدوام بالابتداء، فكما أن الفسقَ يمنع عقد الإمامة بالاتفاق، فإن طريانه يُوجب انقطاعها ويمنع استدامتها، لاتحاد العلة في الحالتين وهي عدم الثقة به وائتمانه على المسلمين، فهذا المعنى يتحقق في الدوام تحققه في الابتداء.
مناقشـــة:
وقد نوقشت أدلة الفريق الثاني بما يلي:
• أن النصوص الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامة، وأدلة الصبر وترك الخروج خاصَّة، والخاص يقدم على العام عند التـعارض.
• أن النصوص التي تحثُّ على مجاهدة الظلمة يمكن حملها على ما سوى الخروج عليهم وقتالهم جمعًا بين النصوص، وبعضها عام في كل ظالم، فتقدم عليه أحاديث الصبر لأنها خاصة في الأئمة.
• أن الاستدلالَ بمواقف الصحابة الذين قاتلوا في الفتنة ليس بأولى من الاستدلال بمواقف من اعتزلوا منهم، لاسيما أنه قد روي عن بعضهم أنه ندم على قتاله، فالأولى الإمساك عن ذلك والتوقف فيه، مع اعتقاد أنهم جميعًا مجتهدون: من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. ولاسيما وقد استقرَّ رأيُ أئمة السنة بعد ذلك على ترك الخروج.
• أنه ليس بالضرورة أن يكون كلُّ خروج على الأئمة الظلمة من البر الذي أمرنا بالتعاون عليه، فقد تترتب عليه من المفاسد العظيمة ما يُلحِقه بأبواب المحظورات.
• أن الاستدلال بآية قتالِ الفئة الباغية موضع نظر، لأن الآية تتحدث عن قتالٍ وقع لا عن ابتداء خروجٍ أو استئناف قتال.
• أن قياسَ الدوام على الابتداء في منع إمامة الفاسق موضعُ نظر، لأن حالة الابتداء حالةُ سعة واختيار، فلا ينبغي أن نعقد الإمامة لفاسق ونحن قادرون على تولية العدل، أما حالة الدوام فهي حالة غلبه وتحكُّم، وقد يترتب على الخلع ما يترتب من المفاسد، فهو قياس مع الفارق.
الترجيــح:
مما سبَق يتبين لنا رُجحان ما ذهب إليه الفريق الأول من تركِ الخروج على أئمة الجَوْرِ؛ للنصوص الواردة في ذلك من ناحية، ولما يترتب عليه من المفاسد من ناحية أخرى، مع ضرورة أمرِهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وعدم تصديقهم على كذبهم، أو إعانتهم على ظُلمهم، ووعظهم ما استطاع المسلم إلى ذلك من سبيل.
بقيت نُقطة وهي أن من أهل السنة من أطلق القول بمنع العزلِ والخروج على الأئمة، ومنهم من أحال في ذلك إلى قاعدة المصالح والمفاسد، فيختار الخروج أو الصبرَ انطلاقًا من تحقيق أكملِ المصلحتين ودفع أعظمِ المفسدتين.
وحجة الأولين أن استقراءَ حركات الخروج عبر التاريخ أثبتَ أنه لم يأت خروج بخيرٍ، فلم تتحقق به مصلحة، ولم تندفع به مفسدة، وحجة الآخرين أنه لا مبرر للصبر على جَوْرِ الأئمة وفسادهم عند أمن الفتنة وغلبة المصلحة على المفسدة.
وأرى أن نفرق بين أمرين:
• الخروج المسلح، فهذا الذي لا ينبغي أن يختلف حول القول بحظرِه؛ لما يفضي إليه من المفاسد، فإنَّ كل من خالف ذلك متعمدًا أو مخـطئًا- كما يقول ابن تيمية- لم يحصل بفعله صلاحٌ بل فساد. وفي التاريخ عبر وعظات!
• السعي في العزل بالطرق الأخرى، وهذا ينبغي أن يُحال إلى قاعدة المصالح والمفاسد، فيقرر أهل الحَلِّ والعقد في ذلك ما يرونه محققًا لأعظم المصلحتين، ودافعًا لأعظم المفسدتين. والله أعلم.
• ومما ينبغي التأكيد عليه في هذا المقام أن تقديرَ المصلحة في العزل أو عدمها ليس متروكًا لآحاد الرعية، وإنما هو لأهل الحلِّ والعقد من المسلمين على أوصافهم الشرعية من الديانة والكفاية والعلم دفعًا لغوائل التفرُّق والاختلاف.
يقول الجويني: «الخلع إلى من إليه العقدُ، وقد سبق وصفُ العاقدين بما فيه مقنع وبلاغ تام»(19).

أما ما ذكرته من التعرض لي في بعض المواقع فقد تصدَّقت بعِرضي ليوم فقري، وغدًا تُبلى السرائر، وها أنذا أُعيد نشر فهمي لهذه القضية، وكُلِّي آذان صاغية لسماع النصيحة، والحلقة القادمة حول تطبيق هذه القواعد على واقعنا المعاصر إن شاء الله. والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه البخاري في كتاب «الفتن» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم : سترون بعدي أمورًا تنكرونها. وقال عبد الله بن زيد قال النبي صلى الله عليه وسلم : اصبروا حتى تلقوني على الحوض» حديث (7056).

(2) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/229).

(3) «فتح الباري» (13/123).

(4) «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/229).

(5) «مجموع الفتاوى» (4/444).

(6) أخرجه البخاري في كتاب «الفتن» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم : سترون بعدي أمورًا تنكرونها. وقال عبد الله بن زيد قال النبي صلى الله عليه وسلم : اصبروا حتى تلقوني على الحوض» حديث (7056).

(7) «منهاج السنة النبوية» (3/395).

(8) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر» حديث (1847).

(9) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع» حديث (1854).

(10) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الفتن» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم : سترون بعدي أمورًا تنكرونها» حديث (7053)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن» حديث (1849).

(11) «منهاج السنة النبوية» (4/529).

(12) «تهذيب التهذيب» (2/250).

(13) «منهاج السنة النبوية» (4/527-528).

(14) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان» حديث (49) من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه .

(15) أخرجه أبو داود في كتاب «الملاحم» باب «الأمر والنهي» حديث (4336) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

(16) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان» حديث (50) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

(17) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/111) حديث (21111)، والحاكم في «مستدركه» (1/151) حديث (262)، وابن حبان في «صحيحه» (1/518) حديث (284)، والطبراني في «الكبير» (4/59) حديث (3627)، وابن أبي عاصم في «السنة» (2/352) حديث (757). وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/248) وقال: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح خلا عبد الله بن خباب وهو ثقة»، وصححه الشيخ الألباني في «ظلال الجنة» (757).

(18) أخرجه الترمذي في كتاب «الذبائح» «أبواب الفتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم » حديث (2259) من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «حديث صحيح».

(19) «غياث الأمم» ص96.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية, 07 الجهاد

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend