حول القول بتجريم العمل الجماعي في الخروج على الحاكم

فضيلة الشيخ، رسالتي هذه تستصرخكم لتوجيه نصيحة لصديق عزيز، آخيته في الله مدةً من الزمان، كان فيها نِعْم الصديق الصدوق، ثم تعرَّف على بعض الاتجاهات الفكرية التي تُجرِّم العمل الجماعي وتلزم بالطاعة للكيانات العلمانية الحاكمة في بلاد المسلمين وتُبدِّع كلَّ خروج على هذه الرؤية، فأخذ يصف الجماعات الإسلامية جميعًا بالبدعة والخروج عن منهج أهل السنة، خاصة جماعات الإخوان والتبليغ والسلفيين الذين أيَّدوا الثورة.
وكلما مضت الأيام كلما ازداد إيغالًا في هذا الطريق وتباعدًا عن بقية إخوانه، وعبثًا، حاولنا أن نقنعه بأن هذه قضايا اجتهادية تُترك لأهل الاجتهاد، أو أننا مغتربون نشتغل بما يهمنا من القضايا ويمثل واقعًا عمليًّا نعايشه، فكان جوابه دائمًا العقيدة أولًا، وهذه قضايا اعتقادية لا تحتمل الخلاف.
ثم حدثت أحداث الثورة المصرية وغيرها من بقية الثورات العربية، فأخذ يُؤكِّد أنها دليل عملي على صحة موقفه، لما وقع من الانفلات الأمني، فقلنا له: ألم ترَ في كل هذه الأحداث إلا الانفلات الأمني؟! أليس في سقوط الطغيان وزوال دولة البغي والاستبداد منفعة ظاهرة أجمع عليها أهل الدين والعلمانيون على حدٍّ سواء؟ ثم ألا تحمد الله أن جمع بينك وبين إخوانك على نقطة التقاءٍ على المشهد المصري؟! لقد التقى الجميع على الإقرار بسلطة المجلس العسكري في ترتيب الأمور، والسعي من خلال الوسائل المتاحة للتمكين للدين، ألا يسعك هذا القدر وتلتقي معهم على كلمةٍ سواء؟ فيقول: العقيدة أولًا، وهذه لقاءات خاطفة سرعان ما تنكسر، الحكام ولاة أمرٍ لا يجوز الخروج عليهم إلا بالكفر البواح، وإقامةُ جماعاتٍ تنازعُهم السلطانُ عملٌ غير مشروع.
فإن قلنا له: ألا ترى في تحكيم القوانين الوضعية كفرًا بواحًا؟ قال: ليس هذا هو الكفر البواح المقصود، فقد قيل بخلق القرآن من قِبَل بعض الحكام ولم يخرج عليهم أهل السنة يومئذ.
فإن قيل له: ألا ترى أن الاجتماع على أعمال الدعوة والسعي المنظم لإقامة برامجها خيرٌ من الفوضى؟ قال: لا منازعة في ذلك، بل المنازعة في التجمعات السياسية الولائية التي تنازع الدولة وتخرج على مشروعيتها.
صدِّقني يا فضيلة الشيخ، لقد أرهقني التعامل معه، ووصلت معه إلى طريق مسدود، فهل من نصيحة ينفعه الله بها ويُجريها الله على أيديكم.
أرجو ألا نكون أثقلنا عليكم، بارك الله فيكم، وجعل كلَّ ما تُنفقونه من وقت ومن جهد في إطفاء هذه الفتنة خيرًا لكم في الدنيا والآخرة. آمين.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن أول ما نبدأ به أن نذكرك بأن صاحبك هذا بموقفه المعاند للتيار العام، والذي وضع به نفسه خارج الحس الديني والوطني والقومي إنما يجسد صدقه مع نفسه، وتوافقه مع ما يعتقده، صوابًا كان أو خطًا، وهذه تُحسب له في الجملة، وتجعله جديرًا بصبرك ونصحك.
أما تجريمه للعمل الجماعي فأحسب أن مناطه لديه عندما يتخذ صورة مراغمة السلطات، وعندما يجسد في تقديره صورةً من صور البغي والخروج على الحكام، والدليل على ذلك قوله لك عندما قلت له: ألا ترى أن الاجتماع على أعمال الدعوة والسعي المنظم لإقامة برامجها خير من الفوضى؟ فقال: لا منازعة في ذلك، بل المنازعة في التجمعات السياسية الولائية التي تنازع الدولة وتخرج على مشروعيتها.
وإذا كان ذلك كذلك ففيمَ الاختلاف وعمَّ التساؤل، وقد أصبح اليوم وسيلة سياسية مشروعة، وآلية قانونية من آليات الحياة السياسية، يُسبغ عليها الحكام المشروعية، ويعتبرونها من آكد الحقوق الدستورية، ومن أبرز مظاهر التغيير التي جدَّت على المجتمع بعد الثورة، ومن أعظم المكاسب الوطنية التي تمخضت عنها، ولا تعتبره خروجًا عليهم ولا منازعة لهم في سلطانهم، ألا يكون المناط بذلك قد اختلف؟ فنتَّجه الآن إلى مسار جديد في التفكير والتقويم، وحسابات المشروعية والجدوى.
والعمل السياسي من خلال الأحزاب وجماعات الضغط ونحوها قد أجازته المجامع الفقهية المعاصرة، وهي أهل الذكر في النوازل المعاصرة، فاستقر أمره بعد أن كان الجدل مُستعِرًا حوله، ونخصُّ بالذكر المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.
وسوف أنقل فتوى المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي؛ لما تتمتع به بلاد الحرمين من مرجعية موثوقة لدى جُلِّ المتنازعين في هذه القضية وغيرها:
قرار المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي:
1. مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية من مسائل السياسة الشرعية التي يتقرر الحكم فيها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، والفتوى فيها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
2. يجوز للمسلم الذي يتمتع بحقوق المواطنة في بلدٍ غير مسلم المشاركةُ في الانتخابات النيابية ونحوها؛ لغلبة ما تعود به مشاركتُه من المصالح الراجحة، مثل تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام، والدفاع عن قضايا المسلمين في بلده، وتحصيل مكتسبات الأقليات الدينية والدنيوية، وتعزيز دورهم في مواقع التأثير، والتعاون مع أهل الاعتدال والإنصاف لتحقيق التعاون القائم على الحق والعدل، وذلك وَفْق الضوابط الآتية:
أولًا: أن يقصد المشارك من المسلمين بمشاركته الإسهام في تحصيل مصالح المسلمين، ودَرْء المفاسد والأضرار عنهم.
ثانيًا: أن يغلب على ظنِّ المشارك من المسلمين أن مشاركته تُفضي إلى آثار إيجابية، وتعود بالفائدة على المسلمين في هذه البلاد؛ من تعزيز مركزهم، وإيصال مطالبهم إلى أصحاب القرار، ومديري دَفَّة الحكم، والحفاظ على مصالحهم الدينية والدنيوية.
ثالثًا: ألا يترتب على مشاركة المسلم في هذه الانتخابات ما يؤدي إلى تفريطه في دينه.
وأيًّا كان الأمر في مدى مشروعية الخروج على الكيانات العلمانية المعاصرة، فقد اتَّفق أهل السنة الذين منعوا من الخروج على الظلمة ابتداءً على الإقرار بولاية المُتغلِّب انتهاء، وقالوا بوجوب الطاعة له وعدم جواز الخروج عليه مناصرةً للإمام المخلوع، فيكون الأمر قد آل بالفعل إلى القول الذي ذكرته من أنه قد التقت الأطياف السياسية في الجملة على الإقرار بسلطة المجلس العسكري في ترتيب الأمور، لإعلانه النزول على إرادة الأمة، والانتصار لما تُمليه إرادتها، وقد خرجت إرادتها في الاستفتاء الأوليِّ مُعبِّرة عن الانقياد للشريعة والانحياز للدين، فلم لا يسعنا هذا القدر، ويلتقي الجميع على كلمةٍ سواء، ويسعون من خلال الوسائل المتاحة للتمكين للدين.
إن العقلاء يبحثون عن مواضع الاتفاق لإبرازها والتأكيد عليها والانطلاق منها، ولا يبحثون عن المتاعب ونقاط الاختلاف للنفخ في كيرها وتسعير الحرائق من خلالها.
لسنا في حاجةٍ الآن للدخول في جدلٍ حول تكييف تحكيم القوانين الوضعية وتعطيل العمل بالشريعة الإسلامية، وانتحال العِلْمانية، والدعوة إليها، وعقد الولاء والبراء على أساسها، فلهذا مقامٌ آخر، ولسنا في حاجة ماسة عاجلة ملحة إلى تحرير مناط أقوال أهل العلم في الخروج على الظلمة من الولاة، وعما إذا كان ينطبق على الكيانات العلمانية المعاصرة، ولتترك هذه إلى المجامع الفقهية وهيئات الفتوى، ولتأخذ ما تستحقه من الوقت والجهد؛ لأننا على الأقل على مستوى المشهد المصري قد تجاوزنا هذه المرحلة، وأصبح الحديث عنها تاريخًا، بعد زوال أركان النظام السابق واجتماع الناس على مرجعية جديدة، واتفاقهم من خلالها على آلياتٍ جديدة للتغيير لا تتضمن خروجًا على حكامٍ، ولا انقلابًا على ذي سلطان.
أما بالنسبة للمشهد الليبي فقد صدر عن هيئة كبار العلماء في بلاد الحرمين قرارٌ بتكفير رأس النظام، وهي الهيئة التي تتمتَّع بالقبول العام على مستوى جُلِّ المتكلمين في هذه المسألة، وأصبح الخروجُ عليه قضيةَ مصالحَ ومفاسد، ومسألةً تتعلق بالتوقيت ومناسبته، والحسابات ودقتها، والعدة وكفايتها، وليست قضية ظلم أو فسق، أو مجرد كفر جنس أو نوع يتمارى الناظرون في مشروعية الخروج بسببه أو عدم مشروعيتها.
أما الطائفة العلوية المتنفذة في سوريا فالأمر أظهر من أن يكون موضعَ جدلٍ، وعلى كلِّ حال يُترك لعلماء الثغور يقررون ما يناسب زمانهم ومكانهم وحالتهم، فهم أقدر من غيرهم على ذلك، وإن استنصحونا في الدين نصحنا لهم بما نعلم أنه أقومُ بمصالحهم، وأنجح في تحقيق مقاصدهم.
نصيحتي ألا نكون من الباحثين عن المتاعب لإثارتها، والعراقيل لإقامتها، والمشكلات لتفجيرها، وما أمكن تأجيله من قضايا الفتنة فلا ينبغي تشقيق القول فيه.
نصيحتي أن ينحاز أهل الدين إلى معسكر الانتصار للدين، وأن ينصحوا للقائمين عليه، وأن يتنادوا إلى كلمةٍ سواء، وأن يتداعوا إلى موقف موحدٍ، تَقَرُّ به عيون أهل الإيمان، ويتغيَّظ به أهل الشقاق والنفاق. والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend