بين الإنكار على السلاطين الجائرة ومراعاة الأهل والجيران

أتت له حُمَّى تونس، وتونس ليست مصر، حفظته كتاب الله في الصغر، وعلمته أحاديث رسول الله، والآن هو مجاز في القراءات العشر والكتب الستة، وأزهري للنخاع، حتى حصل على الدكتوراه، يتطاول على الحكومات، ويهيج الشباب، وأنت تعلم عندنا في مصر سيقطعونه، هكذا قالوا لي، ستذهب أحلامي كلها هباء.
يا شيخنا، نفد كلامي معه، فكلما كلمته قال لي قرآنًا وأحاديث وألجمني ببكائه، وقال لي أهل العلم: لا يجوز لهم أن يتحدثوا تقيَّة، وإن فعلوا ضلُّوا وأضلوا الناس، وأهل العلم وجب عليهم أن يُبيِّنوا الحق ولا يكتموه.
ويتطاول على السلفيين ويُسمِّيهم الخوالف، وأنهم لا يقولون قولَ الحق على السلاطين الجائرة؛ وهكذا يا مولانا على هذه النغمة التي ستؤدي به إلى جحيم أمن الدولة.
والناس يحبونه، لكن من يفديه، هكذا قلت له، هو لا يفقه الواقع، يقول لي: أصحاب الأخدود كلهم قُتلوا.
ماذا أفعل؟ وماذا أقول له؟ كيف أنقذه؟
خلاصة الأمر قُل لابني: يتنبَّه إلى نفسه لأجل خاطر أبيه الذي علَّمه حتى أصبح من أهل العلم.
يا مولانا، ابني يحبك وأنا أيضًا، قل له: لا تقتل أباك بالحسرة، كلما حذَّرته قال لي: إن قتلت وجعلني الله شهيدًا عسى أن أشفع لك عند ربي.
يا مولانا، ابني يقول لي: هذا وقت قول الحق، فإن قلناها اليوم خيرٌ لنا من أن نُؤجِّلها فنهلك ويهلكوا جميعًا، ويطول بذلك عمر الباطل بطواغيته. هكذا يُدندن بهذه النغمة، بعدما علمته وحفظته كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
يا مولانا، ليس معنى أن ابني أزهري أو معه دكتوراه أن يُحمِّل نفسه ما لا يُطيق.
خلاصة الأمر، قل له: يتنبه إلى نفسه لأجل خاطر أبيه الذي علمه حتى أصبح من أهل العلم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يُبارك لك في ولدك، وأن يرزقك بره، وأن يأخذ بناصيته إلى ما يحبه ويرضاه.
ولست أدري ماذا أقول له وأنا لم أسمع له، وبم أنصحه وهو الحافظ لكتاب الله والمجاز في قراءاته والمنقطع لتلقي علوم الشريعة؟
إنني على يقين بأنه يدرك أنه لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه بأن يُعرِّضها لما لا تُطيق من البلاء، وعلى يقين بأنه يعلم أنه إذا كان للشخص أن يسامح في حق نفسه وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يُغرِّر بها في مرضاة الدين وإجلال رب العالمين، فليس له أن يسامح في حقوق الآخرين ممن قد ينالهم الأذى بسبب احتسابه، ولا أظنني في حاجة إلى سوق هذه النصوص بالنسبة له وهو الذي تخصص في دراسة الشريعة وانقطع لتلقي علومها.
قـال ابن رجب :: «من خشي في الإقدام في الإنكار على الملوك أن يُؤْذَى أهلُه أو جيرانُه لم ينبغِ التعرض لهم حينئذ؛ لما فيه من تعدِّي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا، متى خاف منهم على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفي أو أخذ المال، أو نحو ذلك من الأذى- سقط أمرهم ونهيهم، وقد نصَّ الأئمة على ذلك؛ منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم، وقال أحمد: لا يتعرض إلى السلطان فإن سيفه مسلول»(1).
وقال الغزالي: «وأما امتناعه لخوف شيء من هذه المكاره في حق أولاده وأقاربه فهو في حقِّه دونه؛ لأن تأذِّيَه بأمر نفسه أشدُّ من تأذيه بأمر غيره، ومن وجه الدين هو فوقه؛ لأن له أن يسامح في حقوق نفسه وليس له المسامحة في حق غيره.
فإذن ينبغي أن يمتنع، فإنه إن كان ما يفوت من حقوقهم يفوت على طريق المعصية؛ كالضرب والنهب- فليس له هذه الحسبة؛ لأنه دفع منكر يُفضي إلى منكر، وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إيذاء للمسلم أيضًا، وليس له ذلك إلا برضاهم، فإذا كان يُؤدِّي ذلك إلى أذى قومه فليتركه.
وذلك كالزاهد الذي له أقارب أغنياء، فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان، ولكنه يقصد أقاربه انتقامًا منه بواسطتهم، فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها؛ فإن إيذاء المسلمين محذور، كما أن السكوت على المنكر محذور.
نعم، إن كان لا ينالهم أذى في مال أو نفس، ولكن ينالهم الأذى بالشتم والسب فهذا فيه نظر، ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها، ودرجات المحظور في نكايته في القلب وقدحه في العرض»(2).
إننا نقول له: أَبْقِ على نفسك من أجل بقاء دعوتك واستمرارها، ومن أجل أبٍ مفجوع يطوف يمنة ويسرة في محاولة مستميتة لاستنقاذ ولده فلذة كبده من محرقة الفتن والمواجهات غير المتكافئة!
أما ما نسبته إليه من اتهام رموز الدعوة السلفية بأنهم من الخوالف، فإنني أربأ به أن يكون هذا حديثه عن إخوة له في الله نذروا أنفسهم للبلاغ عن الله عز وجل  والبلاغ عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن اختلف مع بعضهم في قضيةٍ أو أكثر، ولعلها زلَّة عارضة أو فلتة عابرة، نسأل الله أن يقيل عثرته، وأن يغسل حوبته، وأن يغفر زلَّته. والله تعالى أعلى وأعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) «جامع العلوم والحكم» ص322-323، وانظر «الآداب الشرعية» لابن مفلح (فصل في الإنكار على السلطان والفرق بين البغاة والإمام الجائر) (1/197).

(2) «إحياء علوم الدين» (2/323).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend