انتقاد الأداء السياسي لفصيل من فصائل العمل الإسلامي

السؤال

هل انتقاد الأداء السياسي لموقف أحدٍ من أهل الفضل، أو لموقف فصيلٍ من فصائل العمل الإسلامي، أو تجمُّعٍ من تجمعاته يعني بالضرورة طعنًا في الدين وقدحًا في العرض وانسلالًا من الربقة وخروجًا عن المنهج؟

لقد جمعنا مجلسٌ تحدثنا فيه عن الأزمة السياسية الراهنة في بعض دول الربيع العربي، وانتقد أحدٌ منا الموقفَ السياسي لبعض التجمُّعات التي عُرفت بالفضل والسابقة، فاستشاط آخرون غضبًا، ورأوا في هذا النقدِ طعنًا في العلماء، وقدحًا في السُّنة، وانقلابًا على العمل الإسلامي برمته، فهل هذا الموقف صحيح؟

وهل توقير العلماء يعني تعصيمهم؟ وهل هناك فرق بين النقد الموضوعي الذي يُراد به المناصحة واستصلاحُ الأحوال وبين الطعن والتشويه والتجريح؟

وما معنى ما نُسب إلى الأئمة من قبل أن كلَّ الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

وهل هذا القول قاصر على الاجتهادات الفقهية فقط؟ أم يدخل فيه الاجتهادات السياسية من باب أولى؟ أفتونا مأجورين.

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فنبدأ أولًا بالتأكيد على ضرورة توقير أهل العلم وحملة الشريعة، و«إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ الله إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْـمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْـجَافِي عَنْهُ»([1]).

كما نُؤكد على ضرورة اختيار التوقيت الصحيح لمثل هذا النقد وهذه المناصحات إن وُجد ما يقتضيها، واختيار المكان الصحيح لعرضها، فلا يُقبل أن تبذل هذه المناصحات من خلال أبواق خصوم السنة أو الملة، ومنابرهم العلمانية أو الطائفية، التي أنشئت ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله.

كما نُؤكِّد على ضرورة التلطُّف في عرضها، والترفُّق في تناولها، فإن النصيحةَ يجب أن تبذل في أحسن حال، لاسيما عند الحديث عمَّن كثُرت فضائلهم، واستفاضت مناقبهم، وجعل الله لهم لسان صدق في الأمة.

يقول الذهبي رحمه الله: «ولو أن كلَّ من أخطأ في اجتهاده مع صحَّة إيمانه وتوخِّيه لِاتِّباع الحق أهدرناه وبدَّعناه لقلَّ من يَسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه»([2]).

كما نؤكد على ضرورة التفريق بين المناصحة التي يُقصد بها التنبيهُ على خطأ أو التشوُّف إلى كمال، مع بقاء الأُلفة والعصمة وأخوَّة الدين، وبقاء الولاء لجماعة المسلمين، والانحياز إلى فسطاطهم، وبين النقدِ الذي يتبعه الانقلابُ على الفسطاط الإسلامي، والانحياز إلى خنادق خصومِه، على النحو الذي جرى من بعض المنتسبين إلى الدعوة في بعض المواقع ممن تنكروا لتاريخهم، وانقلبوا على إخوانهم، وانحازوا جهرة إلى منابر خصومهم، يتخوضون من خلالها في أعراض إخوانهم، ويسلقونهم بألسنة حداد، لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة. فهذا الذي لا نقصده قطعًا بهذا المقال، ونبرأ إلى الله منه وممن تورط في حمأته، وحساب أصحابه على الله.

بعد التأكيد على ما سبق والبداءة به، نثني فنقول:

إن جلَّ المواقف السياسية تدورُ في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، وهي اجتهاداتٌ بشرية لا قداسةَ لها ولا عصمة لأصحابها، وهذا هو الشأن في مسائل السياسة الشرعية التي تقوم في الجملة على تحقيق خيرِ الخيرين، ودفع شرِّ الشرين، ومبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ومن ثمَّ فإنها حمَّالةُ أوجهٍ، فهي ليست من قبيل المحكَم الجليِّ الذي لا يُختلف فيه ولا يُختلف عليه، ومراجعة بعض هذه الاجتهادات وتخطئة أصحابها أو توهيمهم لا يعني بالضرورة قدحًا في أعراضهم، أو طعنًا في دينهم، وإنما هو نقدٌ يتجه إلى جانب الكفاية والخبرة البشرية والدراية بالواقع، أكثر من كونه نقدًا يتعلق بالورع والديانة، أو يمس العقيدة أو المنهج.

ولهذا نظائرُ في تراثنا الفقهي والسياسي، وفي واقعنا المعاصر، يتَّفق عليه الناس جميعًا، فلا يكادون يختلفون فيه أو يختلفون عليه.

فعندما نقول: إن ما فعله الحسن كان أرضى لله مما فعله الحسين. لا يعني هذا قدحًا في الحسين ولا طعنًا في دينه، وإنما يعني أن نظرةَ الحسن إلى الأمور كانت أرجحَ وأثقب، وأن حساباته كانت أدق وأصوب.

وعندما قال عمرو بن العاص عن الروم: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ من ظُلْمِ الْـمُلُوكِ([3]). لا يعني هذا مِنهُ تفضيلُ الروم على جماعة المسلمين، أو موالاته لأهل الكتاب المشركين، واتخاذهم بطانةً من دون المؤمنين، أو أنه صار بذلك روميًّا من الروميين.

وعندما نقول: إن المجتمعات الغربية في الجملة أحسنت صناعةَ دنياها، وإن مؤسساتها أنضجُ في باب السياسة، أو أكثرُ حِرَفيَّةً في باب الإدارة، وأقدر على التعامل مع آلياتها ومستجداتها، من الشرق المسلم في واقعنا المعاصر. لا يعني هذا قدحًا في الدِّين، ولا طعنًا في الملة، ولا انحيازًا إلى خصوم الأمة والملة، ولا أن صاحبَ هذا القول قد صار من المستغرِبين، أو أنَّه ممن يتخذون وليجةً من دون الله ورسوله والمؤمنين.

وعندما يقول بعضنا: إن علماء الشيعة أقدرُ من علماء أهل السنة في الجملة على تحريك قواعدِهم، واكتساب ولائهم، والقدرة على تفجيرِ طاقاتهم وتوظيفها. لا يعني هذا قطعًا انقلابًا على السنة، ولا ارتداءً لـمُسوح الشيعة والتشيع، ولا يصحُّ اتهام قائله بالرفضِ والانسلال من ربقة السنة.

وعندما تضمُّ مجالس أمناء المؤسسات الإسلامية باقةً من العلماء والخبراء، فيقول الخبراء منهم: إن أهل العلم بالشريعة بضاعتهم في الإدارة مُزجاة، وحظُّهم منها قليل. فإن هذا لا يعني قدحَهم في العلم الشرعي، أو طعنَهم في علمائه، وغضَّهم من مكانتهم، أو تحقيرَهم للشريعة وحملتها.

وعندما ننتقد بعضَ التيارات الإسلامية المعاصرة في بعض مواقفها السياسية من باب الغَيْرَة عليها، والحرص على تسديدها ومُنَاصحتها، لا يعني هذا قدحًا في أعراضهم، ولا طعنًا في ديانتهم، لتعَلُّقِ ذلك- كما لا يخفى- بالدراية بالواقع أكثرَ من تعلُّقه بالعلم بالشرع.

وعندما ينتقد أحدٌ الشيخَ حازم أبو إسماعيل- فكَّ الله أسره- في تعاطيه السياسي والقانوني مع أزمة جنسيَّة والدته، وهو السياسي المحنَّك، والقانوني المخضرم- فإن هذا لا يعني الطعنَ في ديانته أو القدح في عرضه، أو الاصطفاف مع خصومه من اللبراليين والعلمانيين والذين قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة.

وعندما ينتقد أحدٌ الدكتور مرسي- فكَّ الله أسره- في تعاطيه السياسيِّ مع الأزمة المصرية، لا يعني هذا أنه يطعن في دينه أو يقدح في عرضه، أو أنه قد صار بذلك من الفلول، وأنه يُظاهر عليه من انقلب عليه من العسكر؛ معاذ الله.

وقل مثل هذا لو انتقدنا جماعةً من جماعات العمل السياسي التي تصدرت المشهد كجماعة الإخوان أو غيرها، فإن هذا لا يعني الانقلابَ على العمل الإسلامي، والطعنَ في رموزه، أو الانحيازَ إلى العلمانية، ومظاهرةَ اللبراليين والحداثيين وخصوم الشريعة.

وعندما يقول أحدٌ ممن يرقبون المشهدَ المصريَّ عن كثبٍ: لقد كان أداءُ العسكر والفلول في هذه الأزمة أكثرُ دهاءً وأبعدُ نظرًا من أداء أهل الدين. فإن هذا لا يعني الانقلابَ على الدين والمتدينين، أو الاصطفاف مع العسكر والعلمانيين.

إننا ندين اللهَ أنَّ توقيرَ أهل العلم وحملة الشريعة فريضةٌ، وأنَّ لحوم العلماء مسمومة، وأن سُنَّةَ الله في هتك أستار متنقصيهم معلومةٌ، وأن من أطلق لسانه فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.

ولكن التوقيرَ شيءٌ والتعصيمَ شي آخر، وما أبعدَ الشُّقة بينهما! فأهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل بشرٌ من البشر، يَرِدُ عليهم ما يرد على سائر البشر من العوارض البشرية، كالذهول والغفلة والخطأ والنسيان، ونحوه، ولكن هذه العوارض لا تنال من مكانتهم، ولا تغضُّ من كرامتهم، ولا تخدشُ منزلتهم التي بوأهم الله إياها في قلوب عباده المؤمنين.

من ذا الذي ما ساء قط؟! ومنه له الحسنى فقط؟!

محمد الهادي الذي عليه جبريل هبط!!

والعجيب أننا نقبل تخطئةَ أبي حنيفة فنأخذ منه ونَرُدُّ عليه، ونقبل تخطئة مالك فنأخذ منه ونرد عليه، ونقبل تخطئة الشافعي فنأخذ منه ونرد عليه، ونقبل تخطئة أحمد بن حنبل فنأخذ منه ونرد عليه، ولا نقبل تخطئة بعض رموزنا المعاصرة من الدعاة أو المجاهدين أو حملة العلم في واقعنا المعاصر، مع إقرارانا جميعًا بأنهم جميعًا دون هؤلاء فضلًا وعلمًا وورعًا ومكانةً في قلوب الأمة!

إن الربطَ بين النَّقدِ السياسي الهادئ، والقدح في الدين والطعن في أهل العلم ربطٌ مشئوم، يقتُل فريضةَ المناصحة، ويُطفئ أشعةَ العقول، ويغتال روحَ التجديد والإبداع، ويُحيل رموز العمل الإسلامي إلى أوثانٍ تُعبد، ويُشيع روح الكبت والقهر والإرهاب التي تسمم الأجواء وتحرق الأرض، وتُكرِّس الأخطاء، وتجعل العمل الإسلامي يدورُ في دوامةِ الجمود والتبعية، والشلل الفكري المقيت.

ترى أيَّ فرق بين تجريم نقد الحُكَّام بدعوى مساسه بأمن الدولة، وتجريم النقد المهذب والهادئ للعلماء والدعاة بدعوى مساسِه بأمن الملة ومهابة السنة؟!

ونُؤكد في النهاية على ما سبق أن بدأنا به أن المناصحة والمراجعة لا تعني التطاولَ على حملة الشريعة، ولا تعني إهالةَ التراب على أصحاب الفضل والسابقة، ولا تعني تجرِئة الصغار أو غير الصغار على نهش لحومهم والتخوض في أعراضهم، ولا يعني الركضَ إلى منابر الخصوم العلمانية أو الطائفية لعرض هذا النصح من خلالها على الملأ، فهذا الذي لا تصلح به دنيا ولا يصلح به دين، ولايزيد أصحابَه من الله إلا مقتًا، فإن من نصح أخاه سرًّا فقد زانه، ومن نصحه علنًا فقد شانه. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________________

([1]) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في تنزيل الناس منازلهم» حديث (4843) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وذكره ابن حجر في «تلخيص الحبير» (2/ 118) وقال: «إسناده حسن»، والعراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (1/ 491) وقال: «إسناد حسن».

([2]) «سير أعلام النبلاء» (14/376).

([3]) أخرجه مسلم في كتاب «الفتن وأشراط الساعة» باب «تقوم الساعة والروم أكثر الناس» حديث (2898) من حديث المستورِد القرشي رضي الله عنه.

تاريخ النشر : 31 يناير, 2021
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend