التدرُّج في تطبيق الشريعة(2)

يا فضيلة الشيخ والله إني أحبك في الله، وقد قرأت لك كثيرًا من المؤلفات ولكن لم أجد لمسألة التدرُّج مزيدًا من الطرح، ولذا أحتاج من فضيلتك أن توضح معنى التدرج، أي في تطبيق الشريعة، هل هو سَنُّ قوانين مخالفة للشريعة من أجل الوصول إلى حكم الشرع؟ أم الإبقاء على القوانين الوضعية وإزالتها بالتدريج ثم وضع قوانين مقابلة لها؟ أم إلزام بالحكم الشرعي ولكن لم يطبق لعدم توافر الشروط المتعلقة بالحكم؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإنَّ للتدرُّجِ تجلياتٍ مختلفةً:
فقد يُتخذ صورة الإصلاح التدريجي للمفاسد القائمة، فالقوانين أو القرارات لا تستأصل الفساد ولكنها تقلُّله، ومن الأمثلة على ذلك أن يصدُر قرار من وزارة الأوقاف بأن الموالد لا تموَّل من أموال الوزارة، فهو خطوة على الطريق، وهي قطعًا غير كافية في الاستصلاح النهائي لهذا الملف، وللقائمين على الوزارة عُذرهم المرحلي، فإن أنصارَ هذه الموالد قوةٌ ضاربةٌ بجذورها في أعماق هذا المجتمع، والتعامل معهم والاقتراب منهم يحتاج إلى حكمةٍ بالغة، وقد لا يستطيع مسئولٌ أن يُحقِّق ما في نفسه من الخَير تجاه هذا الملف أو غيره جملة واحدة، فلتكن البداءةُ برفع دعم الدولة عنها، تمهيدًا لخطوات قادمة تحمِلُ مزيدًا من الرُّشدِ والتصحيح.
واعتبر في هذا بمؤسسة البيت، فكم من الآباء الذين تذهبُ أنفسهم حسرات على أولادهم وفلذات أكبادهم بسبب تفريطهم وفسوقهم عن أمر الله، ولا يستطيعون إعادتهم إلى الجادة، وحملهم على الاستقامة، فيبذلون ما يستطيعون، ويعذرون فيما عنه يعجزون، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها(1).
وقد يُتَّخذُ صورة تهيئةِ المجتمع لاستكمال تطبيق الشريعة، فمثلًا في باب الإعلام يشترط في المادة الإعلامية أن تكون هادفةً، أي داعمةً لقيم المجتمع، ومؤكدةً على خصوصيته الدينية والحضارية، وكُلما استوعبت مرحلة تهيَّأ الناس للتي تليها، وهكذا.
ويسمح للمذيعات المحجبات في الظهور على الشاشة الصغيرة، بعد أن مُنعن من ذلك عقودًا متطاولة من الزمان، وكان يقال لهن حجرًا محجورًا، ثم يلي ذلك إشادة بالحجاب، واستنطاق المرجعيات الشرعية الرسمية في حُكمه، وفي حكم التبرُّج ونحوه. ويلي ذلك الإلزام به في المدارس الدينية وفي الأزهر عمومًا معاهدًا وجامعة ونحوه. ثم تتسعُ الدائرة تدريجيًّا، مع استفاضة البلاغ بحُكمِه وبضرورته لحراسة الفضيلة… وهكذا.

وفي مجال الاقتصاد مثلًا يبدأ باستفاضة البلاغ بتحريم الفائدة على الودائع البنكية، وردِّ الاعتبار إلى هذا الحكم الذي غُيِّب في ظل دار الإفتاء ومشيخة الأزهر السابقة، ثم تشجيع البنوك التقليدية على التوسع في إنشاء الفروع الإسلامية، ثم  التوسع في إنشاء البنوك الإسلامية، ودعمها، وتطوير أدائها المصرفي، وتسويقها محليًّا وعالميًّا، تمهيدًا لإحلالها تدريجيًّا محل البنوك التقليدية، هذا بالإضافة إلى إشاعة ثقافة ترشيد الإنفاق والوسطية فيه بين الإسراف والتبذير، وتبغيض التوسع في الاستدانة إلى النفوس، وحثها على تدبير أمور معاشها في إطار قول الله (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) [الطلاق: 7].
وفي مجال التعليم تكون البداءة بمراجعة مناهج التعليم، مراجعة تهدف إلى تعميق الانتماء الإسلامي والعربي، والإنساني، وبيان أنه لا تعارض بين هذه الانتماءات، إذا وضع كل منها في إطاره الصحيح، كما تهدف إلى تنقيتها من شوائب الخرافة، والتبعية الفكرية، والهزيمة النفسية، ونحوه، وتأمين الحصول على تعليم متكامل ومتوازن ثقافيًّا ومهنيًّا يهدف إلى:
أ – تنمية وعي الدارس بحقائق الوجود الكبرى: مِن خالقٍ مدبر، وكونٍ مسخَّر، وإنسانٍ ذي رسالة، وحياةِ ابتلاءٍ في الدنيا تمهيدًا لحياةِ جزاءٍ في الآخرة. وتنمية احترام الدارس لذاته، وهويته الثقافية، ولغته، وقيمه الخاصة بدينه وأمته. وتنمية احترام حقوق الإنسان، وحرياته الأساسية، وتوعيته بواجباته الخاصة والعامة.
ب – إعداد الدارس لحياة تستشعر المسئولية في مجتمع حُرٍّ، يَنْشُد الحفاظ على قيمه الدينية والإنسانية، والاقتراب من مُثُله العليا بروح من التفاهم، والسلم، والتسامح، والمساواة بين الجنسين في الكرامة الإنسانية، والتعارف بين جميع الشعوب والجماعات العِرقية والوطنية والدينية.
ج- تنمية احترام البيئة الطبيعية، في سياق الوعي بتسخيرِ الكون للإنسان، لتمكينه من أداء رسالته في الحياة، خليفةً في إعمار الأرض. وهكذا.
وفي مجال الحدود والعقوبات الشرعية تكون البداءة بتوفير الكِفَاية، وتيسير سبل الزواج، وإشاعة مفاهيم العفاف وحراسة الفضيلة، واستصلاح ما فسد من وسائل الإعلام التي تُثير الغرائز، وتؤجج سعار الشهوات، ثم يكون النَّظَر التدريجي في إحلال العقوبات الشرعية في التوقيت المناسب، وبالجرعات التي يستوعبها إيمان الناس ولا تمثل فتنة لهم.
هذه مجرد أمثلة، وليس المقام مقام استقصاء، ولكنها أمثلة أرجو أن يُفهم منها النَّفَسُ العام لهذا الأمر، والمعالم الرئيسة فيه، وبطبيعة الحال فإن تقديرَ الملاءمات والمواءمات يحتاج إلى نظر أهل البصيرة والرشد في جماعة المسلمين، ولا مدخل فيه للعامة وأشباه العامة، ولا ينبغي أن يثرب على القيادة الصالحة في حساباتها وتقديراتها، إلا بالقدر الذي يقتضيه واجب التذكير والنصح العام، أو في الجليات التي لا يختلف فيها ولا يختلف عليها. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286].

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend