علاج الفتنة الطائفية

ما «الروشتة» التي تصفها حضرتك- بصفتك أحد أهم علماء الأمة في العصر الحديث- للقضاء على الفتنة الطائفية التي تكاد توشك أن تذهب بمكتسبات الثورة؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:

فإن أخطر التحديات التي تواجه الوضع الراهن في مصر هو ملف الاحتقان الطائفي، ودخول من يُحسن الفقه ومن لا يحسنه في هذا الملف الدقيق! خلاصة القول أيها الموفق: إن أقباط مصر هم جزء من النسيج الوطني الذي يعيش في هذه البلاد منذ الفتح الإسلامي، وقد كان لآبائهم عهد وميثاق ديني توارثوه عنهم، ثم تراجعت الشريعة عن الحاكمية، وتراجع مع تراجعها البعد الديني لهذا الرباط، فبقي الرباط الوطني الذي يجمع بين المنتسبين إلى الوطن الواحد في ميثاق للتعايش المشترك.

والمواطنة رابطة للتعايش المشترك بين أبناء الوطن الواحد، مهما اختلفت مشاربهم أو تباينت عقائدهم، ويترتب عليها واجبات وحقوق متبادلة، وتجعل أصل حرمة الدماء والأموال والأعراض مشتركًا بين الجميع، ولا مساس بشيء من ذلك إلا وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ومن خلال الأحكام القضائية النهائية، وفي صحيفة المدينة(1) سابقة يمكن أن تُحتذى في تأصيل ذلك.

وهم ليسوا مسئولين بطبيعة الحال عن تراجع أمتنا عن دورها في القيادة، ولا عن تراجع قادتنا عن الشريعة وتنكرهم لمرجعيتها، وبالتالي تراجع البعد الديني لهذا الرباط، فيجب أن تُحفظ لهم حقوقهم ويطالبوا بالقيام بواجباتهم شأنهم شأن غيرهم من شركاء الوطن، ومن ثبت عليه بعينه خيانة هذا الرباط، والتآمر على الوطن لصالح قوى أجنبية، فهو وحده الذي يتحمل تبعة هذه الخيانة، ويبوء وحده بإثم ما تولى كبره. فمن بدهيات العدل الذي تتفق عليه الأرض والسماء ألا تزر وازرة وزر أخرى، وألا يؤخذ بريء بظنين! وقاعدة الحساب والجزاء التي تُمثِّل غاية العدل ومنتهاه أن الله يجازي العباد بأعمالهم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا، ولا يحمل أحدٌ وزر غيره.

قال تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ولَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]. أما الباقون فهم على الإقرار أو الإنكار، فمن آزره وتواطأ معه في غير ما تغرير ولا خداع يأخذ حكمه، ويبقى مَن وراء ذلك على أصل رباطه وميثاقه. أما الحديث عن الجزية ونحوه فلا وجه لتشقيق القول في ذلك، وقد أصبح غير المسلمين يشاركون إخوانهم من سائر المواطنين في مهمة الدفاع عن الوطن، فسقطت بذلك الجزية التي شرعت في مقابل الحماية.

هذا، وإن رعاية المسلمات الجدد والدفاع عنهن في مواجهة ما يتعرَّضن له من فتنة في الدين بعد إعلان إسلامهن ينبغي أن يتمثَّل في مطالبة الدولة بمراجعة هذه النظم التي تسمح بانتهاك حقِّ الإنسان في الاستماع لكلمة الله، والاستجابة لها في غير خوف ولا فتنة، وقد قويت الآمال في استجابة الدولة لذلك في ظلِّ المتغيرات الراهنة، فلا ينبغي أن يفتئت أحد على الدولة في ذلك، فهي صاحبة السلطان، وهي التي تقدر على إعادة الأمور إلى نصابها بلا فتنة. ولكن ينبغي كذلك أن تُعطى الفرصة لمراجعة هذه القوانين وتقويم خللها، وأن يؤخذ في الاعتبار طبيعة الظروف الاستثنائية التي تمرُّ بها البلاد في هذه الأيام. أما محاصرة الكنائس أو مهاجمتها فلا يزيد الفتن إلا استعارًا، ولا يزيد الأمور إلا تعقيدًا، وقد كانت المسلمات الجدد يُفتنَّ في مكة في جملة مَن يُفتنَّ فيها من المستضعفين، ويمرُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  على هذا المشهد فيقول: «صَبْرًا آلَ يَاسِرَ؛ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ»(2).

والاستضعاف موقف طارئ قد يغشى الدولَ في بعض اللحظات كما يغشى الأفراد والجماعات، وعلى أخواتنا من المسلمات الجدد أن يتحلَّيْن بالصبر إلى أن تنجلي الغاشية، ويسعهن ما وسع غيرهن عبر التاريخ، مَن صبروا على ما أُوذوا فكانت العقبى لهم. فلا يضر المسلمة الجديدة أن تكتم إيمانها إلى أن يأذن الله بالفرج، ولها منادح كثيرة لو لم تُرد إعلامًا وضجيجًا وجلبة مفتعلة، بل لن يضيرها قِيد شهر أو شهرين في أسوء الأحوال حتى تُفوِّت على المتربصين ما يريدونه من إغراق البلاد في مستنقع الفتنة! وإن كانت هناك قضايا صحيحة لبعض الأسيرات فسوف تُلفَّق قضايا كثيرة لمأجورات يلعبن على أوتار الفتنة، فالحذرَ الحذر! ولا نقصد بالصبر تخلِّي الأمة عن نصرتهن، وإنما نقصد به إلى أن تأتي النصرة على وجه لا يلحق الضرر بمسيرة الأمة، ولا يتخذ منه المتربصون مدخلًا لإجهاض جهادها، وكسر انتفاضتها، وتحطيم منجزات ثورتها المباركة. والله تعالى أعلى وأعلم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (3/34).

(2) أخرجه ابن إسحاق في «سيرته» (4/172) حديث (239) من حديث رجال من آل ياسر رضي الله عنه ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/140) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه .

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   10 متفرقات في العقيدة.

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend