السؤال:
يتشدق الكثير من دعاة الليبرالية اليوم بمفهوم النسبية، وأنه لا يوجد شيء اسمه الحقيقة المطلقة، حتى إنهم ليرفضون كثيرًا من مسائل الدين تحت هذا الادعاء الأعوج، كيف نرد عليهم؟ وما هي المصادر التي يمكننا الاطلاع عليها لمواجهة هذه الأفكار الغريبة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فماذا يريد أصحاب هذه الدعوى بها؟ إن كان المقصود به محدودية المعرفة الإنسانية وقصورها، وأن الإنسان لم يؤْتَ من العلم إلا قليلًا فهذا حقٌّ لا ينبغي أن يُخْتلف فيه ولا أن يُخْتلف عليه، ولكن الإنسان رغم محدودية معارفه مؤهَّلٌ لمعرفة ذلك القدر من العلم الذي يُيَسِّر له أداء المهمة التي أُنيطت به في عمره القصير على ظهر هذا الكوكب الأرضي، ويتمكن معها من أن يؤدي دوره في هذا الوجود على النحو الذي يسعد به في دنياه وأخراه، فالله جل وعلا لم يخلقه عبثًا([1]) ولم يتركه سدى([2])، بل كما خلق فسوى قدَّرَ فهدى([3]).
أما إن كان المقصود بها أن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى حقيقة من الحقائق، وأن كل ما عنده من حقائق لا يعدو أن يكون مجرَّد افتراضات ونظريات، لا يمكن القطع بشيء منها، فأول ما يرد على ذلك من نقد تطبيق هذه القاعدة على هذا القول نفسه، وأنه مجرد افتراض ولا يمكن القطع به، فإن جادل في ذلك أصحابُه ليثبتوا أنه حقيقة فقد نقضوا قولهم وهدموا أصلهم، وأقروا بأن هذا القول ليس على إطلاقه، وأول ما يشهد بنقضه قولهم هذا.
وإن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المعترك الفكري: هل ثمة منهج صحيح يمكن من خلاله الوصول إلى حقائق دينية أم أن الشأن في المجال الديني كالشأن في المجال الأدبي والفني لا يعدو إلا أن يكون أذواقًا نسبية متغيِّرة بلا منهج معلوم ولا معايير منضبطة؟!
إن مآل هذا القول- كما يريده أصحابه- هدم اليقينيات الدينية، والقطعيات العقدية والشرعية، وإحالة الدين- كلِّ الدين- إلى جملة من المتغيرات والمشتبهات تتلون بتلون المصالح والأهواء، فيصبح الدين محكومًا بأهوا ء البشر بدلًا من أن يكون حاكمًا لها.
يقول أحد الباحثين: الفلسفة النسبية هي السَّند الفكريُّ الأخير والمرجعُ النهائيُّ لكل التيارات المناوئة لمبدأ «الثبات الإسلامي» في العقيدة والشريعة والأخلاق والنُّظم، سواء كانت وضعيةً منطقية أو ماركسية أو وجودية أو براجماتية.
فالنسبية فلسفةٌ تزعم أن الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، والمبادئ التشريعية، والنظم الاجتماعية والسياسية، كلها تتبدل وتتغير بتغير الزمان والمكان، فما كان حقًّا بالأمس لابد أن ينقلب باطلًا اليوم أو غدًا، وما كان عدلًا لدى اليونان قبل قرون من الزمان يستحيل أن يظل كذلك إلى اليوم، لا فرق في ذلك بين قانون وضعي وشريعة دينية.
وبهذا التصور الشامل للفلسفة النسبية يُقرر أنصار التجديد أن الشعر المقَفَّى، واللغة الفصحى، والعمارة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية… إلخ، كانت صالحةً لعصر النبوة والراشدين، ولكنها لا يمكن أن تصلح لنا اليوم، ولا مفرَّ أمامنا من أحد أمرين: إما نقلد نظائرها الأوروبية العصرية، وإما التخلف عن العصر والفناء تبعًا لذلك.
ولقد كانت نسبية الحقيقة- كما يقول الأستاذ غازي التوبة- إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغيُّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغيُّرَ الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أن تَكَوُّنَ تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترةٍ أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى.
فمن المعروف أن الكنيسة كانت تنطلق آنذاكَ في حُكمها لأوروبا من نص «الإنجيل المقدس» الذي كان ثابتًا، والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيرَهُ، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعددة تناقض النص الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين «المحرَّف» والعلم، وكانت النتيجةُ اضطهادَ رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكن الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها، وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورةُ رجالَ الدين عقبة في طريق العلم والتقدُّم، وصار الربط منذئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة.
ومنذ أن بدأ التفاعلُ بين الثقافتين الغربية والإسلامية، كان أبرز صور التصادم بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص «القطعي الثبوت القطعي الدلالة» في الثقافة الإسلامية- أن من أبجديات الثوابت الإسلامية التفريقُ بين القطعي والظني، والثابت والمتغير، والمحكَم والمتشابه.
وقد يكون لبعض هؤلاء شيءٌ من العذر لما يرونه من تصلُّب بعض أهل الدِّين في فروع وجزئيات، وإحالتها جميعًا إلى ثوابت وقطعيَّات، فحمل ذلك هؤلاء على هدم البيت كله على ساكنيه، ونزع القداسة والمرجعية عن التراث الديني كلِّه أصولًا وفروعًا، كلياتٍ وجزئياتٍ، ثوابتَ ومتغيراتٍ.
ولكن الغلوَّ لا يُردُّ بغلوٍّ مقابل، ولا يُنسخ الباطل بباطل مقابل، بل يُرَدُّ الغلوُّ بالوسطيَّة، والباطلُ بالحق، وبالحق قامت السماوات والأرض. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________
([1]) قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115].
([2]) قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36].
([3]) قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 – 3].