فضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي حياكم الله. هناك زوبعة وبلبلة في هذه الأيام في أوساط الشباب وخاصة الملتزمين ألَا وهي حول حدِّ الرجم للزاني المحصن؛ فمنهم من يُنكر ويصفه بالبشاعة وخاصة بعد ما نُشر على اليوتوب مقطعٌ لداعش وهي تُقيم الحد على إحدى النساء، وهؤلاء الشباب متأثرون جدًّا بعدنان إبراهيم ومقتنعين بكلامه، وما قاله في هذه المسألة، وأن الرجم قد نُسخ وأن سورة النور وخاصة حد الزاني فيها وهو الجلد نزلت بعد قصة ماعز والغامدية ونسخ الرجم، أفيدونا جزاكم الله خيرًا ونفعنا بعلمكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الرجم ثابتٌ بالسنة المطهرة القولية والعملية، وكان مما يُتلى في كتاب الله فنُسخ لفظُه وبقِيَ حكمُه، وعلى هذا إجماع من ينقل عنهم العلم، فلا يُعرف إنكارُ هذا الحد إلا عن الخوارج.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الله قد بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحقِّ وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أُنزل عليه آيةُ الرجم، قَرَأْنَاها وَوَعَيْنَاها وعَقَلْنَاها، فرجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَجَمْنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمانٌ أن يقول قائلٌ: ما نجد الرجمَ في كتاب الله. فيضلوا بترك فريضةٍ أنزلها اللهُ، وإن الرجم في كتاب الله حقٌّ على من زنى إذا أحصَن من الرجال والنساء إذا قامت البينةُ أو كان الحبَلُ أو الاعترافُ(1).
وفي رواية أنه قرأها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم»(2).
وأخرج مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَـهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»(3).
وأخرج البخاري ومسلم كذلك من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، قال صلى الله عليه وسلم: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا». قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِمَت(4).
وكذا رجمه صلى الله عليه وسلم الغامديةَ، واليهوديين اللذين زنيا(5).
فهو حد ثابتٌ بقوله صلى الله عليه وسلم وفعلِه في أخبارٍ تُشبه المتواتر، وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قدامة رحمه الله: «الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة: (أحدهما) في وجوب الرجم على الزاني المحصن، رجلًا كان أو امرأة. وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفًا إلا الخوارج فإنهم قالوا: الجلد للبكر والثيب»(6).
ولا وجه للاحتجاج بآية سورة النور، والقول بأنها لم تَنُصَّ إلا على الجلد فهي ناسخة لما سواه، فقد ثبت أن الرجم وقع بعد نزول سورة النور؛ فآية النور نزلت بعد حادثة الإفك، وأبو هريرة رضي الله عنه كان أسلمَ بعدَها، وقد حضر إقامةَ حدِّ الرجم على زانٍ محصن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتَّى ردد عليه أربعَ مرات، فلما شَهِدَ على نفسه أربعَ شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» قال: لا. قال: «فَهَلْ أَحْصَنْتَ». قال: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ»(7).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد قام الدليلُ على أن الرجمَ وقع بعد سورة النور؛ لأن نزولها كان في قصة الإفك، واختُلف هل كان سنةَ أربع أو خمس أو ست، والرجم كان بعد ذلك، فقد حضره أبو هريرة، وإنما أسلم سنة سبع، وابن عباس إنما جاء مع أُمِّه إلى المدينة سنة تسع»(8).
وبهذا تكون آيةُ سورة النور في الزناة الأبكار.
ومن ناحية المعقول فإن الشريعة المطهرة لم تجعل للمرء بعد إحصانِه سبيلًا إلى الجريمة، فلم تجعل الزواج أبديًّا حتى لا يقع في الخطيئة أحدُ الزوجين إذا فسد ما بينهما، بل أباحت للزوجة أن تطلب الطلاق للغيبة والمرض والضرر والإعسار، وأباحت للزوج الطلاق في كلِّ وقت، وأحلت له أن يتزوج أكثر من واحدة على أن يعدِلَ بينهن، وبهذا فتحت الشريعةُ للمحصن أبوابَ الحلال، وأغلقت دونه بابَ الحرام. فكان عدلًا- وقد انقطعت الأسباب التي تدعو للجريمة عقلًا وطبعًا- أن تنقطع المعاذير التي تدعو لتخفيف العقاب، وأن يؤخذ المحصن بمثل العقوبة الغليظة نكالًا من الله.
أما ما وقع من تنظيم الدولة (داعش) فلا نعلم ملابساتُه، وهي لم تتمكن بعدُ لكي تقيمَ الحدود، فإن إقامةَ الحدود تحتاجُ إلى شوكة دولةٍ قائمةٍ متمكنة، ومن المعلوم فقهًا أن الأيدي لا تُقطَع في الغزو، وأن الحدودَ لا تقام في أرض العدو، وهم لم يستكملوا السيادةَ بعدُ على المناطق التي يوجدون بها، والقصف يلاحقهم برًّا وجوًّا، وقد لا يكون لديهم من القضاة الشرعيين ما يُمَكِّنُهم من الحكم في الدماء والزنا من المحصن على هذا النحو، فأمرهم إلى الله جل جلاله، ولكن هذا لا ينبغي أن ينعكس على حكم شرعي ثابت بالبطلان. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الحدود» باب «الاعتراف بالزنى» حديث (6829)، ومسلم في كتاب «الحدود» باب «رجم الثيب في الزنى» حديث (1691).
(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/132) حديث (21245)، والحاكم في «مستدركه» (4/400) حديث (8068) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
(3) أخرجه مسلم في كتاب «الحدود» باب «حد الزنى» حديث (1690).
(4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الوكالة» باب «الوكالة في الحدود» حديث (2315)، ومسلم في كتاب «الحدود» باب «من اعترف على نفسه بالزنى» حديث (1698).
(5) أخرجه مسلم في كتاب «الحدود» باب «من اعترف على نفسه بالزنى» حديث (1695) من حديث بريدة بن الحُصيب رضي الله عنه.
(6) «المغني» (9/35-36).
(7) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الحدود» باب «لا يرجم المجنون والمجنونة» حديث (6815)، ومسلم في كتاب «الحدود» باب «من اعترف على نفسه بالزنى» حديث (1691).
(8) «فتح الباري» (12/120).