التعزير بالمال في جرائم الحدود

السؤال:

في بعض المجتمعات (مثل بعض مناطق جزر القُمُر تحديدًا) يضع وجهاء القرية عقوبة ماليَّةً لمن يرتكب بعض الجرائم، وخاصة الزنا، إذا ثبت يقينًا بحمل المرأة ونحو ذلك، وإن لم يدفع يكن منبوذًا في المجتمع، فهل هذا يجوز؟

علمًا بأن في البلد محاكمَ شرعيةً لكن لفصل الأحوال الشخصية كالميراث والزواج ونحوها فقط، فهل هذا التصرف من شيوخ القرى له مسوِّغ شرعي وخاصة مع غياب تطبيق الحدود؟ لأن بعض الدعاة عندنا يقول بأن هذا مهر البغيِّ، علمًا بأن هذا المال يستخدم في تطوير القرية والمصالح العامة، وشكرًا جزيلًا لفضيلتكم.

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فإن التعزير بالمال إنما يكون في غير جرائم الحدود، أما جرائم الحدود فقد جعلت لها الشريعةُ عقوبات محددة، ليس لأحد أن يتجاوزها في قليل ولا كثير، وقد أراد بعض الناس ذلك في زمن النبوة، فردَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما: أنهما قالا: إن رجلًا من الأعراب أتى رسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قُلْ». فقال: إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجمَ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ الله، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ– لرجل من أسلم- عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا». فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِمَتْ([1]).

فتبديلُ الحدود وتحويلها إلى غرامات مالية حكمٌ بغير ما أنزل الله، وافتئاتٌ على شرع الله، وتقديم بين يدي الله ورسوله.

ولكن قد يتصور هذا إذا عُطِّلت الحدود على مستوى الدولة، ولم يكن من سبيل إلى إقامتها لعدم الشوكة، وتدخل بعض الوجهاء لإطفاء حريق بمثل هذه الغرامات، فيكون لها تأويل آخر، وهو إطفاء الفتنة، ودفعها بالميسور، حيث تعذَّر إقامةُ الحدود لإعراض السلطان عنها، ورفضه لإقامتها.

وقد ذكر بعض أهل العلم أنه حيث تعذرت إقامة الحدود لوجود الناس في دار حرب، فإن جميع العقوبات الشرعية تتحول إلى تعازير؛ لأن هذا هو المقدور، والميسور لا يسقط بالمعسور، أما حيث أمكن إقامة الحدود فلا يجوز العدول عنها بحال من الأحوال، وقد قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________

([1]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «أخبار الآحاد» باب «ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة» حديث (2696)، ومسلم في كتاب «الحدود» باب «من اعترف على نفسه بالزنى» حديث (1698).

تاريخ النشر : 29 نوفمبر, 2020
التصنيفات الموضوعية:   15 الحدود

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend