«المسائل الخلافية لا إنكار فيها»، هذه العبارة كثيرًا ما نسمعها، فهل هذه العبارة صحيحة على عمومها؟
فعلى سبيل المثال في مسألة تغطية الوجه بالنسبة للمرأة فالعلماء الذين يرون وجوب التغطية يقولون بإثم المرأة الكاشفة، لكن هناك علماء آخرون يرون خلاف ما ذهب إليه الأولون، فما الحكم هنا على من يتبنى الرأي الأول وينكر على النساء الكشف؟ مع أن المسألة فيها خلاف ولا إنكار في المسائل الخلافية أيضًا.
هل يتضح من هذا أن من شروط الإنكار اتفاق العلماء، أم من شروط الإنكار أن يكون منكرًا في كتاب الله فقط؟ أيضًا عودة لهذا المثال السابق ألا وهو وجوب تغطية الوجه؛ فهي مسألة مهمة جدًّا؛ إذ إنها من صلب حجاب المرأة ومع ذلك فيها خلاف، لكن قد من الله علينا وفتح على بعض علمائنا مثل شيخ الإسلام وحسم كثيرًا من المسائل الخلافية مثل المثال السابق، فقد قال: إن الخلاف المشهور بين رواية ابن عباس وابن مسعود يرجع لتدرج حكم الحجاب، فأول ما فرض الحجاب على المرأة لم تؤمر بتغطية الوجه، وبعد ذلك تدرج الحكم وأمرت بالتغطية، فابن عباس ذكر أول الحكم وابن مسعود ذكر آخره. ومع ذلك لا يزال بعض العلماء ممن ينتمون لمنهج السلف يقولون بالخلاف ويرون الكشف أولى، فما تفسير هذا؟
أيضًا هل المسائل الخلافية ستظل خلافية لأبد الآباد؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أقدر غيرتك وحرصك زادك الله توفيقًا، حرصك على العفاف من ناحية، وحرصك على اجتماع الكلمة من ناحية أخرى، وكل ذلك مما يحمد لأصحابه وأرجو أن يجدوه في موازين حسناتهم بإذن الله، وبقي بعد ذلك التنبه لجملة أمور:
• منها أن المسائل الخلافية: كل أمر لم يرد فيه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح، والمقصود بالنص القاطع في هذا المقام: هو ما يدل على المعنى ولا يدل على غيره، أي ما لا يرد على دلالته على المراد احتمال آخر.
ولو طبقت هذا المعيار على المسائل الخلافية لوجدت الأدلة الواردة فيها حمالة ذات أوجه، ولو أرجعت البصر كرتين لوجدت ذلك من رحمة الله تعالى بهذه الأمة وتوسعته عليها حتى لا تحبس في اجتهاد واحد لقيام الدليل القاطع، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: ما يسرني أن أصحاب محمد لم يختلفوا، لأنهم إن اجتمعوا على أمر فخالفهم أحد كان ضالًّا، أما إذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا وأخذ رجل بقول الآخر لوجد أن في الأمر سعة.
واعتبر في ذلك بمسائل الطلاق ما يقع منه وما لا يقع، فسوف تجد أن خلاف أهل العلم في هذا كان رحمة من الله تعالى بهذه الأمة وتوسعة عليها، وحسبك باجتهادات شيخ الإسلام في هذا الباب والذي أنقذ الله به أسرًا كثيرة من التصدع والانهيار.
• ومنها التفريق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية، فالمسائل الاجتهادية هي التي نتحدث عنها، وهي التي يرد عليها هذا الحديث، ولكن ليس كل مسألة خلافية مسألة اجتهادية، بل الأمر كما قال الآخر:
وَلَيسَ كُلُّ خِلاَفٍ جَاءَ مُعتَبَرًا
إِلاَّ خِلاَفٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ
لقد أفتى بعض المفتين في مصر بحل فوائد البنوك ولم تصبح قضية الفوائد بهذه الفتاوى من القضايا الخلافية، اللهم إلا عند من حجب الله أبصارهم وبصائرهم عن رؤية الحق ومشاهدة أنواره، بل ستظل فوائد البنوك هي الربا الحرام وإن أفتى بعض المنتسبين إلى العلم بخلاف ذلك، ولقد أفتى بعض المنتسبين إلى العلم بجواز بيع الخمور والخنزير لغير المسلمين خارج ديار الإسلام، ولم تصبح هذه القضية من القضايا الخلافية، بل الحق فيها أبلج والباطل لجلج.
وعبر التاريخ لقد نسب إلى ابن عباس قول بإباحة نكاح المتعة ولم تصبح قضية زواج المتعة من القضايا الخلافية لأجل هذه الفتوى، بل ظل هذا النكاح باطلًا بإجماع أهل السنة، سواء عند الذين ثبت عنهم رجوع ابن عباس عن فتواه أو الذين لم يثبت عندهم ذلك، مع كامل الاعتذار والتقدير لابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن.
• ومنها حقيقة الإنكار المنفي في هذه المسائل، إن الإنكار المنفي في هذا المقام يراد به الإنكار الذي يفضي إلى الطعن في المخالف والقدح في دينه واتهامه في إيمانه أو في أمانته، ولا يتنافى هذا مع تدارس هذه المسائل وإجالة النظر فيها وتحقيق القول فيها بالبينات والحجج العلمية، فلم يزل أهل العلم يرد بعضهم على بعض ويقوي كل منهم رأيه ويبسط حججه في ذلك ويرد على مخالفه من غير أن يفضي ذلك إلى قطيعة، بل التراحم والتقدير والعصمة المتبادلة بين الجميع، واعتبر بما روي عن كبار الأئمة في هذا الشأن؛ فإن فيه عبرة ومنهاجًا.
ولقد كانت هذه الروح هي التي أوجدت الفقه عبر القرون وأثرت المكتبة الإسلامية والفكر الإسلامي وورثنا بسببها هذا التراث الكبير من الفقه والذي تمثل في عشرات الألوف من المجلدات الفقهية التي ملأت أطباق الأرض والتي تعد مفخرة هذه الأمة ومما تتيه على غيرها من الأمم.
• ومنها أخيرًا أن التشابه في الأحكام نسبي، فما يعد راجحًا عند فريق يعد مرجوحًا عند فريق آخر، ولو شاء ربك أن يكون القرآن والسنة جميعًا على نحو لا يحتملان في الفهم إلا وجهًا واحدًا ما أعجزه ذلك، ولكن حكمته اقتضت أن يكون من نصوص الوحيين قرآنًا وسنة ما هو محكم قطعي، وما هو متشابه ظني، فيلتقي الناس جميعًا على الأول لأنه مبنى دينهم ويتغافر الناس في الثاني ويجعلون منه سبيلًا إلى التوسعة على الأمة ويتفيئون في ظلاله رحمة الله بعباده.
فأرجو أن يتسع صدرك لهذه التوسعة، وأن ترى فيها رحمة الله عز وجل، بدلًا من أن تجعل منها سبيلًا إلى الحصر وضيق الصدر بالخلاف والمختلفين.
وفقك الله يا بني إلى ما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم آمين. والله تعالى أعلى وأعلم.