ما رأي فضيلتكم في هذا الكلام الآتي، وما رأي فضيلتكم في قائله الشَّيخ حمود بن عقلاء الشعيبي: لأنني أقرأ له أيضًا. اللهمَّ ارحمنا وارحمهم ومشايخنا وأهلينا وكل المسلمين رحمة واسعة لا تنقطع.
فضيلة الشَّيخ حمود بن عقلاء الشعيبي حفظه الله: كثرتِ الأقوالُ في سيد قطب :، فهذا يُنـزِّهه من كلِّ خطأٍ وذاك يجعله في عداد الفاجرين بل الكافرين. فما هو الحقُّ في ذلك؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده. وبعد:
فإن الـمُفكِّر الأديبَ سيد قطب : له أعداء كثيرون، يختـلفون في كيفية النقد وأهدافه والغايات منه، ويتـفـقون في مصالح مشتركة، وقبل أن أكشفَ بطلان مثالب الجرَّاحين والمطاعن المُوجَّهة إلى سيد : أُبين أولًا لماذا يُستهدف سيد قطب خاصة، ومَن المستفيد من إسقاطه.
إن سيِّدًا : يُعد في عصره عَلَمًا من أعلام أصحاب منهج مقارعة الظالمين والكفر بهم، ومن أفذاذ الدعاة إلى تعبيد النَّاس لربِّهم والدعوة إلى توحيد التحاكم إلى الله، فلم يهدم إلا مضاجعَ أعداء الله ورسوله كجمال عبد الناصر وأمثاله، وما فرح أحدٌ بقتله كما فرح أولئك، ولقد ضاق أولئك الأذناب بهذا البطل ذرعًا، فلما ظنُّوا أنهم قد قتلوه إذا بدمه يُحيي منهجَه ويُشعل كلماتِه حماسًا، فزاد قبولُه بين المسلمين وزاد انتشارُ كتبِه؛ لأنه دلَّل بصدقِه وإقدامه على قوة منهجه، فسعَوْا إلى إعادة الطعن فيه رغبةً منهم لقَتْل منهجِه أيضًا، وأنَّى لهم ذلك.
فاستهدافُ سيد قطب : لم يكن استهدافًا مجردًا لشخصه، فهو ليس الوحيدَ مِن العلماء الذي وُجدت له العَثَرات، فعنده أخطاء لا نُنكرها، ولكن الطعنَ فيه ليس لإسقاطه هو بذاته؛ فقد قدَّم إلى ربِّه ونسأل اللهَ له الشَّهادة، ولكن الذي ما زال يُقلق أعداءه وأتباعَهم هو منهجه الذي يخشَوْن أن ينتشرَ بين أبناء المسلمين.
وإني إذ أسمع الطعنَ في سيد قطب : لا أستغرب ذلك؛ لقوله الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} [الأنعام: 112]، فكلُّ مَن معه نورٌ من النبوة أيضًا له أعداء من أهل الباطل بقدر ما معه من ميراث نبيِّنا محمدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام، فما يضير سيدًا طعنُ الطاعنين، بل هو رفعةٌ له وزيادة في حسناته، ولكن الذي يُثير الاستغراب هو فعلُ أولئك القوم الذين يدَّعون اتِّباعَ الحقِّ ومع ذلك ينقصون الميزانَ ولا يَزِنُون بالقسطاس المستقيم، والله يقول: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: 1 – 3]، فأولئك إذا أرادوا مَدْحَ أحدٍ عليه من المآخذ ما يفوق سيدًا بأضعافٍ قالوا كلمتهم المشهورة: «تُغمس أخطاؤه في بحر حسناته»، وقالوا: «إذا بَلَغ الماءُ قُلَّتين لم يحمل الخَبَثَ» وغير ذلك، وإذا أرادوا ذمَّ آخر كسيدٍ : الذي يُعد مجددًا في باب ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [الأنعام: 57] سلكوا معه طريقَ الخوارج وكفَّروه بالمعاصي والزَّلَّات.
وسيدٌ : لا ندَّعي له العِصْمة من الخطأ، بل نقول: إن له أخطاء ليس هذا مجالَ تفصيلِها، ولكنها لا تُخِلُّ بأصل دعوتِه ومنهجه، كما أن عند غيرِه من الأخطاء التي لم تقدح في منـزلتهم.
وعلى سبيل المثال ابن حجر والنووي وابن الجوزي وابن حزم، فهؤلاء لهم أخطاء في العقيدة إلا أن أخطاءهم لم تجعل أحدًا من أبناء الأُمَّة ولا أعلامها يمتـنع من الاستفادة منهم أو يهضمهم حقَّهم ويُنكر فضائلهم، فهم أئمةٌ إلا فيما أخطئوا فيه، وهذا الحالُ مع سيد، فأخطاؤه لم تقدح في أصل منهجه ودعوته لتوحيد الحاكمية وتعبيد النَّاس لربِّهم.
والقاعدة التي يجب أن تقرَّر في مثل هذه الحالات هي ما يُستفاد من قول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219] فكلُّ مَن حقَّق ما يجب تحقيقُه من أصل الدِّين ينظر بعد ذلك في سائر منهجه، فإن كان خطؤه أكثرَ من صوابه وشرُّه يغلب على نَفْعه فإنه يُهمل قولُه وتُطْوَى كُتُبُه ولا تُروى.
وعلى ذلك فالقول الفصل في سيدٍ : أن أخطاءَه مغمورةٌ في جانب فضائله ودفاعه عن «لا إله إلا الله»، لاسيَّما أنه حقَّق أصولَ المعتقد الصَّحيح، وإن كان عليه بعضُ المآخذ وعباراتٍ أطلقها لا نوافقه عليها.
وختامًا: لا يَسَعُني إلا أن أذكرَ أنني أحسب سيدًا واللهُ حسيبه يشمله قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ، وَرَجُلٌ قَامَ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ»، فنحسب أن سيِّدًا : قد حقَّق ذلك الشرطَ حيث قال كلمةَ حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ فقتله.
وأنقل كلمةً له : قبل إعدامِه بقليلٍ عندما أُعجب أحدُ الضباط بفرحِ سيِّد قطب وسعادته عند سماعِه نبأَ الحكم عليه بالإعدام (الشَّهادة) وتعجَّب لأنه لم يحزن ويكتئب وينهار ويُحبط، فسأله قائلًا: أنت تعتـقد أنك ستكون شهيدًا، فما معنى «شهيد» عندك؟ أجاب : قائلًا: الشهيدُ هو الذي يُقدِّم شهادةً مِن رُوحه ودَمِه أن دِينَ الله أغلى عنده من حياته؛ ولذلك يبذل رُوحه وحياته فداءً لدِين الله.
وله : من المواقف والأقوال التي لا يَشُكُّ عارفٌ بالحقِّ أنها صادرةٌ عن قلبٍ قد مُلِئَ بحبِّ الله وحبِّ رسولِه ﷺ وحبِّ التضحية لدِينه. نسأل اللهَ أن يرحمَنا ويعفوَ عنا وإيَّاه، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصَحْبِه أجمعين. قاله حمود بن عقلاء الشعيبي 16/5/1421هـ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فتأمَّل ما قاله الشَّيخ حمود بن عقلاء الشعيبي : فإن فيه كفايةً، ولكننا نؤكِّد على أنه ما مِن أحدٍ من الناس إلا ويُؤخذ من قوله ويُترك، إلا صاحبَ الرسالة بأبي هو وأمي ﷺ، وإنك إذا أردتَ أن تبدأَ رحلةَ تعلُّمٍ جادَّة فلتكن بداءتك بكتب السلف رضوان الله عليهم لبناء الأسس المكينة التي تُمكِّنك من فهم كلام الأستاذ سيد : تعالى على وجهه، ولا تُسِئْ تأويلَه أو تخرج به عن الجادَّة يَمْنةً أو يَسْرةً، واجمع في قراءتك للتفسير بين «تفسيره» و«تفسير ابن كثيرٍ» : أو ما شابهه من كتب التراث؛ ليجتمع لك النَّفَس العلميُّ من ناحيةٍ والعاطفة الإيمانية الجيَّاشة والمعايشة لمعارك الأُمَّة المعاصرة من ناحيةٍ أخرى. زادك اللهُ حرصًا وتوفيقًا، واللهُ تعالى أعلى وأعلم.