التطاول على العلماء من على منصة رابعة

أريد أن أسأل فضيلتكم العديد من الأسئلة:
أولها: هل الأحزاب الدينية حرامٌ لأنها تفرِّق وحدة المسلمين وكلمتهم؟
وثانيًا: هل الديموقراطية شرعًا حرامٌ أم أنها فقط مخالفة لما فعل الصحابة رضي الله عنهم؟
وثالثًا: هل من الممكن شرعًا أن أتنازل عن حقوقي فقط لحقن الدماء؟ لأنه قد زادت أعداد القتلى بشكل كبيرٍ وأخشى أن ينزل غضبُ الله علينا جميعًا لأننا لم نحقن الدماء، أم أن من ماتوا شهداء والنزول الآن هو للدفاع عن الإسلام؟
رابعًا: أخشى أن كثيرًا مما يقال على منصة رابعة العدوية هو تطاول على شيوخنا من حزب النور والشيخ أبي إسحاق والشيخ محمد حسين يعقوب، فقد قال أحدهم على المنصة: «الناس خلاص جت هنا واحنا لا نقول لكم إن انتوا تقعدوا على الأرض زي ما الناس قاعدة ولا تقفوا عند دورات المياه عشان جلابيبكم البيضاء متتوسخش».
فهو بما قاله قد جرَّأ الناس على شيوخ لا أحسبهم خائنين للإسلام كما يقولون، بل حتى إن كثيرًا من أصدقائي يقولون إنهم لن يستطيعوا سماعَ هؤلاء الشيوخ مرةً أخرى لأنهم خذلوا الإسلام، ويعترفون بأن حزب النور خائنٌ وفعل بالإسلام أكثر مما فعل اليهود بالإسلام، فأيُّ حلٍّ لما نحن فيه؟
وهل ننزل برغم اختلافنا مع قيادات الإخوان؛ باعتبار أنها فعلًا كما رأينا حربٌ على الإسلام ومن يمثله؟
وهؤلاء الذين يتساقطون ليلَ نهار ما حكمهم؟ هل هم شهداء؟
وماذا نفعل لكي نتفادى كلَّ السبابات التي تُلقى على الشيوخ الذين علمونا كل شيء؟
آسفة جدًّا على الإطالة، لكن هي أسئلة تُراودني منذ بداية الانقلاب وزاد عليها سفك الدماء. جزاكم الله كل خير.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن المشكلة يا بنيتي ليست في مبدأ اجتماع الناس على بعض أعمال الخير، وإنما المشكلة في فهمهم للآليات المشروعة لمثل هذا الاجتماع، وفي انضباطهم بمعاقد الولاء والبراء في الشريعة. لقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما رأس الحزب: فإنه رأس الطائفة التي تتحزَّب- أي تصير حزبًا- فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك أو نقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمَّن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفريق الذي ذمَّه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرَا بالجماعة والائتلاف، ونهيَا عن التفرق والاختلاف، وأمرَا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيَا عن التعاون على الإثم والعدوان»(1).
فالمشاركة السياسية من خلال الأحزاب السياسية أو غيرها من مسائل السياسة الشرعية التي تتقرَّر في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتختلف فيها الفتوى باختلاف الزمان والمكان، فهي ليست من قواطع الشريعة ومحكماتها، وإنما يرجع فيها إلى أهل الفتوى وأهل الخبرة، فحيثما رجحت مصالحها على مفاسدها أُجيزت، وإن كان العكس مُنعت، ولا ينبغي أن يُنتهك بها سياجُ الأخوة الإيمانية، ولا أن تفضي إلى الاستطالة في أعراض المخالفين من المسلمين، فـ«إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْـمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ»(2).
والولاء والبراء لا يُعقد في الشريعة على أسماء جماعات، ولا على رسوم تنظيمات وأحزاب، وإنما يعقد على الإسلام والسُّنة، وبقدر ما يكون لدى المرء من استقامة على الإسلام ومتابعة للسنة يكون حظه من الموالاة، مهما كان اجتهادُه الفقهي أو السياسي في قضية من القضايا أو في موقف من المواقف.
أما الديموقراطية فإن قُصِد بها مفهومها الفلسفي الغربي، أي نقل مرجعية الأحكام من الكتاب والسنة إلى أهواء البرلمانات والمجالس التشريعية، فهي وثنية سياسية لا تتفق مع أصل الإسلام. أما إن قُصد بها الآليات السياسية للديموقراطية، كالتعددية السياسية، والانتخابات، وتداول السلطة، ونحوه- فهي يا بنيتي من مسائل السياسة الشرعية التي تتقَرَّر في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتختلف فيها الفتوى باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فنحن نُفرِّق يا بنيتي بين مصدر النظام القانوني ومصدر السلطة السياسية:
فالنظام القانوني مصدره الشرع: فالحجة القاطعةُ والحكم الأعلى هو الشرعُ لا غير، فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله(3). والدين ما شرعه الله ورسوله، فمن أحلَّ الحرام المجمع عليه أو حرَّم الحلال المجمع عليه أو بدَّل الشرع المجمع عليه- فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
والسلطة السياسية مصدرُها جماعة المسلمين؛ فللأمة في إطار مرجعية الشريعة الحقُّ في الهيمنة على وُلاتها توليةً ورقابةً وعزلًا.
والمسألة يا بنيتي ليست قضيةَ حقوقٍ شخصيَّة يُمكن التنازل عنها، ولكنها اختيار بين منهجين وثقافتين وحضارتين؛ بين علمانية الدولة وعسكرتها، وفصلها عن تراثها وهويتها الإسلامية من ناحية، وبين استعادة الدولة هويتها الإسلامة في إطار من الوسطية والتعددية وقبول المخالف، أي مدنية الدولة في إطار مرجعية الشريعة، والإيمان بثوابتها، من ناحية أخرى، ولعله يا بنيتي قد أتاك نبأُ حركة (تمرد) وما تدعو إليه، وأتاك نبأ لجنة تعديل الدستور وما تسعى إليه!
وعندما تكونُ المقابلة على هذا النحو فقد حُسِم الخيار، وتقرَّر الاختيار، فالولاء للإسلام وللشريعة وللنبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم، فتلك هي هوية الأمة وثقافتها وتاريخها، وما العلمانية إلا اختراقٌ غربيٌّ للعقل المسلم، وبصمةٌ ووصمةٌ للاستعمار في ديار الإسلام، جاءت مع سنابك خيول المستعمر، الذي وطئت خيوله صحن الأزهر، وداست قدسه بسنابكها.
أما الذين قتلوا في هذه المواجهات فإنهم يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادرَ شتى، ويبعثون يوم القيامة على نيَّاتهم، فمن كان خروجه لله ورسوله فخروجه لله ورسوله، ومن كان خروجه لدنيا يُصيبها أو منصب يتطلع إليه فخروجُه إلى ما خرج له.
ومن قُتل منهم دفاعًا عن الشريعة وانتصارًا للإسلام فلن يُضلَّ الله أعمالهم، سيهديهم وسيصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم(4)، ونرجو أن يكونوا الآن في حواصل طيرٍ خُضرٍ تسرح في الجنة، ترِدُ أنهارَ الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش(5).
وأما ما يحدث على المنصَّة من تطاول على رموز العمل الإسلامي من شيوخ الدعوة السلفية أو من غيرهم فهو- إن صح ما تذكرين- من المنكر الذي نبرأ إلى الله ورسوله منه، وأخشى أن يؤدي شؤمُه إلى تأخير النصر، وتطاول ليل هذه الأزمة.
إننا نؤكد أن «كُلّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»(6). وليس من التوفيق لا ديانةً ولا سياسةً أن يستكثر المرء من خصومه في هذه اللحظات الحرجة، إن من التوفيق أن تُحسن خطاب من بغى عليك، بل وأن تتألف قلوبَ ما استطعت من خصوم الدين، فكيف بأهل الدين، ورجالات الإسلام وحملة الشريعة؟!
على كل حالٍ يا بنيتي في هذه الأجواء اجعلي قاعدتك: إن أحسن الناس أحسِني معهم، وإن أساءوا فاجتنبي إساءتهم(7).
نحن قد نخطِّئُ حزبَ النور أو غيرهم في اجتهادهم السياسي أو الشرعي في بعض المواقف، ولكن تبقى لهم عصمة الإسلام كاملة، فلا تكفير، ولا تبديع، ولا تفسيق، ولا تخوين، ولا إقصاء.
وصفوة القول يا بنيتي:
إن من دعانا من هؤلاء أو من غيرهم إلى برٍّ وتقوى أجَبْناه ودعمناه، ومن دعانا من هؤلاء أو من غيرهم إلى خلافِ ذلك من إثمٍ أو عدوان نصحنَا له، واعتزلنا موقفَ بغيِه واستباحته للمخالف، ونصحنا له في ذلك بما لا يُؤدي إلى مفسدة أعظم، ولا يمنعنا ذلك من إعانته على ما عنده من بر وتقوى. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________

(1) «مجموع الفتاوى» (11/92).

(2) أخرجه مسلم في كتاب «الأدب» باب «في الغيبة» حديث (4876) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4876).

(3) فقد أخرج الترمذي في كتاب «اللباس» باب «ما جاء في لبس الفراء» حديث (1726)، وابن ماجه في كتاب «الأطعمة» باب «أكل الجبن والسمن» حديث (3367) من حديث سلمان رضي الله عنه، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء قال: «الْـحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْـحَرَامُ مَا حَرَّمَ االلهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»، وحسنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (3367).

(4) قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد: 4 – 6].

(5) ففي الحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «بيان أن أرواح الشهداء في الجنة» حديث (1887) عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169] قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: «أَرْوَاحُهُمْ في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لـها قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ من الْـجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً فقال: هل تَشْتَهُونَ شيئًا؟ قالوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ من الْـجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟! فَفَعَلَ ذلك بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فلما رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا من أَنْ يُسْأَلُوا قالوا: يا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا في أَجْسَادِنَا حتى نُقْتَلَ في سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى. فلما رَأَى أَنْ ليس لهم حَاجَةٌ تُرِكُوا».

(6) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه» حديث (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7) فقد أخرج الترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في الإحسان والعفو» حديث (2007) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حديث حسن».

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   07 آداب وأخلاق

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend