الأسلوب الصحيح لشكر النعمة

قدَّر الرحمن أن أحمل في توأم بعد ما مات ابني في الشهر التاسع، وكان أمرًا عجِبنا له كثيرًا، وشكرنا الله سبحانه على منِّه وكرمه. ولكني أخاف من أن يُصيبني بعض الغرور بهذه النعمة وأسأل الله أن يُتِمَّها على خير.{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15]، فكيف للإنسان أن يتعامل مع نعمة الله؟ وما هو الأسلوب الصحيح لشكر النعمة؟
سؤال آخر: أشعر من حين إلى آخر أن نِعَمَ الله وابتلاءاته للخلق متتابعة، فحين يشتد الابتلاء أيقنت بقُرب الفرج وحين تنزل نعم الله أخاف من الفرح الشديد؛ لأني أشعر أنه ربما سوف أُمتحن عن قريب ليرى سبحانه أسوف أشكره فقط عند النعم. وهذا ما حدث عندما مات ابني فكنت أشعر أن شيئًا ما سيحدث، فكنت مستعدَّة شيئًا ما. فها أنا الآن أترقَّب نِعمة الذرية وقد ضاعفَ الكريمُ رزقَه لنا. فهل يُعدُّ من سوء الظن أن أخافَ مما سوف يأتي؟ هل سنة التتابع صحيحة وما الحكمة؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الشكر قيد النعم، قال تعالى: و{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]والشكر في اللغة، هو: الظهور، من قولهم: دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلَف. ويكون لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال.
وحقيقته في علاقة العبد بربه الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية، وأركانه ثلاثة:
أحدها: اعتراف العبد بنعمة الله عليه.
والثاني: الثناء على الله بها واعترافه بتقصيره في شكرها.
والثالث: الاستعانة بها على مرضاته.
ولا يتحقق الشكر إلا باجتماعها، فهو يتعلق بثلاثة أشياء، بالقلب للمعرفة والمحبة، وباللسان للثناء والحمد، وبالجوارح لاستعماله في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه. كما قال الشاعر:
أفادتكمُ النعماءُ مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا(1)
والشكر كما يكون بالأقوال يكون كذلك بالأفعال، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ: 13].
والشاكرون يا بنيتي أطيب الناس قلبًا، وأهنأهم عيشًا، وأحرصهم على صلة ما أمر الله به أن يُوصل، وهم يَقنَعون باليسير، ويستجلبون بالشكر المزيدَ، ويدركون أن اختيار الله لهم أولى من اختيارهم لأنفسهم، وأنهم وإن حُرموا القليل فقد أُعطَوا الكثير، وإن اشتكوا علةً في جانب من الجوانب فقد أصحَّ لهم جوانب أخرى كثيرة، فهنيئًا لمن أُلهم هذه العبودية، ووُفق للقيام بها فهي بحق نصف الدين.
ولا داعي للقلق يا بنيتي بل أحسني الظنَّ بربك، وثقي أن ربَّك شكور يذكُر من ذكرَه ويشكر من شكره، فلا يكن في صدرك شيءٌ من سعة رحمته، وسابغ فضله وأنعمه.
وليكن همُّك يا بنيتي في القيام بعبودية الشُّكر، والتفقُّه في هذا الأمر الجليل، والاجتهاد في الدعاء؛ فإنه لا يرد البلاء إلا الدعاء(2).
واعلمي دائمًا أن اختيارَ الله للعبد خيرٌ من اختيار العبد لنفسه، فأحسني الظن بربك واشتغلي بذكره وشكره وحسن عبادته، وفوِّضي إليه أمورك كلها، وهو نعم المولى ونعم الوكيل.
وتُعحبني هذه الأبيات لعلك تستنشقين معها عبق الرضا والسكينة:
هشّت لك الدّنيا فما لك واجما؟ وتبسّمت فعلام لا تتبسّم
إن كنت مكتئبا لعزّ قد مضى هيهات يرجعه إليك تندُّم
أو كنت تشفق من حلول مصيبة هيهات يمنع أن تحلَل تجهُّم
أتزور رُوحك جنَّة فتفوتها كيما تزورك بالظنون جهنَّمُ؟
و ترى الحقيقة هيكلا متجسِّدا فتعافها لوساوس تتوهّم
يا من يحنّ إلى غد في يومه قد بعث ما تدري بما لا تعلم
أسأل الله يا بنيتي أن يرزقنا وإياك العفو والعافية، وأن يُفرغ على قلوبنا السكينة والرضا، وأن يحمِلَنا في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبةً. والله تعالى أعلى وأعلم.

_________________

(1) البيت من بحر الطويل.

(2) أخرجه الترمذي في كتاب «القدر» باب «ما جاء لا يرد القضاء إلا الدعاء» حديث (2139) من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ». وقال الترمذي: «حديث حسن».

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   07 آداب وأخلاق

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend