المرأة ومواقع التعارف بين الجنسين من أجل الزواج

توجد مواقعُ على الإنترنت للتعارف بين الجنسين من أجل الزواج، منها ما تشرف عليه المراكز الإسلامية، وتحكمه سياسات حازمةٌ لمنع التفلُّت، فما مدى مشروعية ذلك؟ وما ضوابطه الشرعية؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الإعانة على تزويج الأيامى، وتحقيق العفاف، من جُملة البر الذي تعبَّد الله به عباده، وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
وقد جاء في الصحيحين: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1).
وفي الصحيح أيضًا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى تَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ»(2). وقال ابن عباسٍ: ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسَّع لي في المجلس، ورجل اغبرَّت قدماه في المشي إلى إرادة التسليم عليَّ، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل: رجلٌ نزل به أمرٌ فبات ليلته يُفكِّر بمن ينزله، ثم رآني أهلًا لحاجته فأنزلها بي(3).
فما يكون من ذلك عبرَ مواقع موثوقة يُشرِف عليها ثقاتٌ عدولٌ، يضعون الأمور في نصابها، ولا يتعدون حدود الله عز وجل فلا حرج فيه، بل هو من جُملة أعمال الخير الذي تُبنى بها المجتمعات وتُشيَّد عليها الحضارات، وقد علم المقيمون خارج ديار الإسلام عُسر التواصل الاجتماعي، وصعوبة الوصول إلى الزوج الصالح أو الفتاة الصالحة الذي يحلم بها مريدو الزواج.
وأول ما يتعيَّن على المشرفين على هذه المواقع وَضْعُ السياسات الحازمة التي تحول دون أن يُتَّخذ هذا الأمر مدخلًا للعابثين والذين في قلوبهم مرض، ممن يرتادون هذه المواقع للتسلية وتزجية الأوقات، ويحصلون من خلالها على معلومات تُعينهم على هذا العبث، ولابد أن يكون للأهل مدخلٌ في هذا التواصل في وقتٍ مبكرٍ، وألا يُترَك العنان للراغبين في الخطبة في التواصل الثنائي والتناجي، وبث العواطف بدعوى التعرُّف والاستيثاق؛ فإن هذا من أكبر ذرائع الفساد؛ فإن الخطبةَ حتى بعد تمامها وعلم الأهل بها مجرَّدُ تواعد على الزواج، فلا تُثبت حقًّا من حقوق الزوجية، ولا تترتب عليها تبعاتٌ مالية، ولا تُحِلُّ حرامًا في العلاقة بين الطرفين. ولكلِّ من الخاطبين النظرُ من الآخر إلى الوجه والكفين، والتحدث معه بالمعروف في غير خلوة، ولا يشترط في النظر إذنُ المخطوبة ولا علمها.
ولعلَّ مما يبعث الثقةَ في هذه المواقع أن يُعلَن لها عن هيئة رقابة شرعية تُشرف على شرعيَّة إجراءاتها وسلامة سياساتها، وتُراجع الضوابط والمعايير التي تتبناها هذه المواقع بصورة مستمرَّة، وتنظر في الشكايات التي تُرفَع إليها في حالات التجاوز، وبذلك تشيع الثقةُ بها، ويطمئنُّ المتعاملون معها على أسرارهم وأعراضهم وعوراتهم.
أما المواقعُ التي لا تحظى بهذه العناية، والتي تُطلق العنان للتواصل المباشر بين الطرفين بلا رقابة ولا حريجة من دينٍ أو عرفٍ- فلا يُشرع التردُّدُ عليها، ولا اتِّخَاذها طريقًا لإقامة حياة أسريَّة مستقرة، فإن الدخولَ في الخطوة الأولى في تكوين مؤسسة الأسرة ليس بالأمر الهين.
فالزواج لا يعني الارتباط بين امرأة ورجل، وإنما هو ارتباط بين قرابتين وثقافتين ونظامين من القيم والتقاليد. والاكتفاء بالتواصُل المباشر عبر هذه الطريقة فضلًا عما يحمله من كونه من ذرائع الفساد وخطوات الشيطان، فإنه- حتى مع افتراض عفة المقصد وسلامة النيات- لا يتيح فرصًا كافية للتعارف بين الطرفين، كما أنه يؤدي غالبًا إلى غضِّ الطرف عن عيوب كلِّ منهما وتجاوزها من أجل استمرار العلاقة لتحقيق اللقاء ثم الزواج، ومن ثمَّ فإنه لا يُنصح بسلوك هذا الطريق.
بل على مُريد العفاف أن يبحث أولًا عن وسيلة للتواصل المباشر، عبر أهله ومعارفه وأصدقائه أولًا، فإن لم يتيسر فعبر المواقع الموثوقة، ذات الرصيد الطيب والسمعة الحسنة، والتي تتمتع بتوثيق الثقات العدول. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________

(1) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «المظالم والغصب» باب «لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه» حديث (2442)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم الظلم» حديث (2580)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/453) حديث (13646) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/191) وقال: «رواه الطبراني في الثلاثة وفيه مسكين بن سراج وهو ضعيف».

(3) أخرجه الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (1/116) حديث (681).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 النكاح, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend