ما الذي يحل ويحرم من الحيوانات البرية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الأصلَ في حيوانات البَر الحِل إلا ما ورد الدليلُ بتحريمه؛ لعموم قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]
فكل الحيوانات من طيورٍ وغيرها الأصل فيها الحِلُّ، إلا ما ورد الدليل بتحريمه.
ومما وردت الأدلة باستثنائه وتحريمه ما يلي:
• الحُمُر الأهلية، ودليل تحريمها ما ثبت في البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله ﷺ جاءه جاءٍ فقال: أكلت الحمر. ثم جاءه جاء فقال: أكلت الحمر. ثم جاءه جاء فقال: أفنيت الحمر. فأمر مناديًا فنادى في الناس إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهلية فإنها رجس، فأُكفِئت القدور وإنها لتفور باللَّحم(1). أما الحُمُر الوحشية فهي على أصل الحِلُّ.
وقد ثبت في الصحيحين أن الصعب بن جُثامة رضي الله عنه أهدى إلى النبيِّ ﷺ حمارًا وحشيًّا، وهو بالأبواء سائرًا إلى مكة في حجة الوداع، ولكنه ﷺ ردَّه، وعلل الردَّ قائلًا: «إنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أنَّا حُرُمٌ»(2). أي: محرمون، وأنت صِدْته لنا فلا نأكله. ولو استئنس الحمار الوحشي فلا يَحرُم أكلُه مراعاةً للأصل.
• كلُّ ذي نابٍ من السباع، كالأسد، والنَّمِر، والذئب، والفيل، والفهد، والكلب، والدب، والقط. وكلُّ ذي مِخْلَبٍ من الطير، والمخالب هي الأظفار التي يفترس بها، كالعُقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والباشق، والحِدَأة، والبومة، وما يأكل الجِيَف كالنسر، والرَّخَم؛ لنهيه ﷺ عن كلِّ ذي ناب من السباع وعن كل ذي مِخْلَبٍ من الطير(3)؛ ولأن للغذاء تأثيرًا على من يتناوله، فاعتياد التغذي على ذوات الأنياب والمخالب يُورث محبة البغي والعدوان، ولا يشترط للتحريم أن تكون مما يفترس الرجال، أو المواشي؛ فقد تفترس الأشياء الصغيرة، وتأكل ما دونها من الحيوانات. وقد استُثني الضبع من تحريم ذوات الأنياب؛ لورود النص بإباحته؛ ولكونه ليس من السباع العادِيَة بطبعها، والدليل على إخراجها أن النبيَّ ﷺ جعل فيها شاةً إذا قتلها المُحرِمُ(4)، وهذا يدلُّ على أنها من الصيد؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 95] وبهذا استدل الإمامُ أحمد :(5) أن النبيَّ ﷺ جعل فيها كبشًا، وذلك يدل على أنها حلال.
• كلُّ ما أمر الشارعُ بقتله، أو نهى عن قتله، فهو حرام، ومما أمر بقتله الخمس الفواسق؛ لقوله ﷺ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْـحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ»(6)، وكذلك الحية(7) والوَزَغ(8). ومما نهينا عن قتله من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد(9)، والضِّفْدَع(10).
• كلُّ ما تولَّد من مأكولٍ وغيره كالبغل، فالبغل مُتولِّد من نَزْو الحمار على الفرس، والحُمُر محرمة، والخيل مباحة، ولكن لا يمكن تمييز الحلال من الحرام فحَرُم الجميع؛ لأن ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجبٌ.
أما ما يُستخبث فهو في محل الاجتهاد، وقد استدل من قال بتحريمه بقوله تعالى في وصف النبي ﷺ: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾[الأعراف: 157] فقالوا: كل ما عدَّه الناس خبيثًا فهو حرام، ومنهم من فصَّل فقال: مَن استخبثه العرب في زمن النبوة. ومنهم من قال: بل ما استخبثه ذوو اليسار منهم. ولكن الاستدلال بهذه الآية على هذا المعنى غير صحيح؛ لأن معنى الآية أن الرسولَ ﷺ لا يُحرِّم إلا ما كان خبيثًا، وأن ما حرَّمه الشرع لا يُسأل عن خبثه، فهو لا يُحرِّم إلا الخبيث، وليس المعنى كلَّ ما عده الناس خبيثًا فهو حرام؛ لأن بعضَ الناس قد يستخبث الطيب، ويستطيب الخبيث؛ ولهذا كان الصواب أن المستخبث هو ما فصَّل الشارع تحريمَه، لا ما استخبثه العرب أو ذوو اليسار بأذواقهم، حتى لا يكون التحليل والتحريم تابعًا لأذواق العرب أو لذوي اليسار من الناس. والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد» باب «لحوم الحمر الإنسية» حديث (5528).
(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الحج» باب «إذا أهدي للمحرم حمارًا وحشيًّا لم يقبل» حديث (1825)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «تحريم الصيد للمحرم» حديث (1193).
(3) سبق تخريجه مخلب من الطير» حديث (1934).
(4) فقد أخرج أبو داود في كتاب «الأطعمة» باب «في أكل الضبع» حديث (3801) من حديث جابر بن عبد الله ب قال: سألت رسول الله ﷺ عن الضبع فقال: «هُوَ صَيْدٌ وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إِذَا صَادَهُ الْـمُحْرِمُ»، وأخرجه الترمذي في كتاب «الأطعمة» باب «ما جاء في أكل الضبع» حديث (1791) عن ابن أبي عمار قال: قلت لجابر: الضبع صيد هي؟ قال: نعم. قال: قلت: آكلها؟ قال: نعم. قال: قلت له: أقاله رسول الله ﷺ؟ قال: نعم. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا ولم يروا بأكل الضبع بأسا وهو قول أحمد وإسحق وروي عن النبي ﷺ حديث في كراهية أكل الضبع وليس إسناده بالقوي وقد كره بعض أهل العلم أكل الضبع وهو قول ابن المبارك».
(5) جاء في «كشاف القناع» (6/190): «( وما له ناب يفترس به ) نص عليه ( سوى الضبع ) فإنه مباح وإن كان له ناب».
(6) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «بدء الخلق» باب «خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم» حديث (3314)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب» حديث (1198)، من حديث عائشة ل.
(7) سبق ذكره وتخريجه من الدواب» حديث (1198).
(8) ففي الحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب «السلام» باب «استحباب قتل الوزغ» حديث (2238) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أن النبي ﷺ أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقًا.
(9) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في قتل الذر» حديث (5267)، وابن ماجه في كتاب «الصيد» باب «ما ينهى عن قتله» حديث (3224) من حديث ابن عباس ب، وذكره ابن حجر في «تلخيص الحبير» (2/275) وقال: «رجاله رجال الصحيح؛ قال البيهقي: هو أقوى ما ورد في هذا الباب».
(10) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/453) حديث (15795)، وأبو داود في كتاب «الطب» باب «في الأدوية المكروهة» حديث (3871)، والنسائي في كتاب «الصيد والذبائح» باب «الضفدع» حديث (4355)، والحاكم في «مستدركه» (3/504) حديث (5882). وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/36) وقال: «رواه أبو داود والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد والبيهقي وقال هو أقوى ما روي في النهي عن قتلها».