هل لي أن أسأل صاحب المنزل عن اللحم إذا كان الداعي مسلمًا؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن كان الداعي من الثقات، أو كان من مستوري الحال ممن لا يُعرف عنه التهتُّك والجرأة على حدود الله عز و جل ، فلا يَجمُل السؤال، بل تُحمل حالهم على ظاهر السلامة، ولا يُسألون عن مشروعية طعامهم، ولاسيما أن الخلافَ في هذا الباب من مسائل الاجتهاد؛ لأن من أهل العلم من يستصحب عموم حِل طعام أهل الكتاب، فلا يُفتى بالتحريم إلا حيث يُستيقن من السبب المُحرِّم الناقل عن هذا الأصل، ومنهم من يستصحب أصلًا آخر وهو أن الأصلَ في اللحوم الحُرمة حتى يأتي ما يدلُّ على الحِلُّ، وأن الشكَّ في التذكية يُبقي اللحوم على أصل الحُرمة، كما قال ابنُ العربي المالكي: «قال علماؤنا: الأصل في الحيوان التحريم، لا يحلُّ إلا بالذكاة والصيد؛ فإذا ورد الشكُّ في الصائد والذابح بقي على أصل التحريم»(1).
وقال ابن رجب الحنبلي: «وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا يحل إلا بيقين حِلِّه من التذكية والعقد، فإن تردَّد في شيء من ذلك لظهور سببٍ آخر رجع إلى الأصل فبُني عليه، فيُبنى فيما أصله الحرمة على التحريم؛ ولهذا نهى النبيُّ عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثرَ سهمٍ غير سهمه أو كلبٍ غير كلبه أو يجده قد وقع في ماء، وعلل بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره»(2).
ورجحان القول بأن الأصلَ في اللحوم التحريم ظاهر، وهو الذي تشهد له الأدلة، وعليه جماهير أهل العلم، ولكن قد يقال: إنه لا تعارض بين الأصلين في موضوع النازلة، فإننا ننتقل عن هذا الأصل وهو تحريم اللحوم بالظاهر، فنحمل ذبائح المسلمين على ظاهر السلامة، ونستصحب القول بأن الأصلَ فيها الحِلُّ؛ لقيام الإجماع على أن من اشترى لحمًا من سوق المسلمين حلَّ له أَكْلُه حتى لو لم يشهد الذبح ولا تيقنه ولا علم كيفيته، وحديث عائشة وإن كان في باب التسمية إلا أنه يشهد لهذا الأصل؛ فقد ثبت في «صحيح البخاري» من حديث عائشة : أن قومًا قالوا: يا رسول الله: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسمَ الله عليه أم لا، فقال رسول الله ﷺ: «سَمُّوا اللهَ عَلَيْهِ وَكُلُوهُ»(3).
ومثل ذلك يقال في أسواق أهل الكتاب؛ لأن ذبائحهم حِلٌّ لنا، فنستصحب القول بأن الأصلَ فيها الحِلُّ كذلك إلى أن نستيقن من نقيض ذلك، وأنه قد تخلفت التذكية أو أُهِلَّ بها لغير الله.
وأيًّا كان الأمر فإن الخلافَ في مثل ذلك سائغ، وهو شائع بين أهل الفتوى، والناس تبعٌ لهم.
أما إن كان الداعي معروفًا بالتفريط وعدم التحري في باب المطاعم والمشارب فلا حرج في السؤال في هذه الحالة، استبراءً للدين وتوقيًا للمحارم ما أمكن، فإن خشيت أن يفتح هذا بابًا إلى سوء الظن والمِراء المذموم ونحوه فاكتفِ من طعامه بما تطمئن إليه نفسك وتجنَّب غيرَه.
والأمر أوسعُ إذا كان السؤال سيُوجَّه إلى بائع الطعام، فقد جرت العادة على التفريق بين أنواع الأطعمة، ولكلٍّ منها سعره وعملاؤه، فلا حرج في السؤال لا عرفًا ولا شرعًا، فإذا تنوَّعت المعروضات، أو كثرت الشُّبَه عن اللحم الذي يستخدمه أو الدجاج الذي يبيعه حَسُن السؤال، أما إذا كان يستخدم طعامًا مستوردًا من بلاد المسلمين، أو من بلدٍ من بلاد أهل كتابٍ لا يُعرف عنهم شيءٌ غير الذبح فلا وجه للسؤال. والله تعالى أعلى وأعلم.
____________________
(1) «أحكام القرآن لابن العربي» (2/34-35).
(2) «جامع العلوم والحكم» ص 69.
(3) أخرجه البخاري في كتاب «البيوع» باب «من لم ير الوسواس ونحوها من الشبهات» حديث (2057).