ما حكم استخدام الكحول في الطهي لإضافة نكهة إلى بعض الأطعمة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فتحريم الخمر مما عُلم من الدين بالضرورة، والأمرُ القرآني باجتنابها قطعيُّ الدلالة على ذلك؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90] وتحريمها والأمر باجتنابها تحريمٌ لجميع صور استخدامها أكلًا أو شربًا أو تداويًا، صرفًا أو ممزوجة بغيرها، وعلى هذا يمتهد القول بأن استخدام الكحول في طهي الأطعمة لا يجوز قلَّ أم كثر؛ إذ لا تدعو إلى ذلك ضرورة ولا حاجة ماسة تُنزَّل منزلةَ الضرورة.
قال السرخسي في «المبسوط»: «ولو عُجن الدقيقُ بالخمر ثم خُبز، كره أكله؛ لأن الدقيقَ تنجس بالخمر، والعجين النجس لا يطهر بالخبز، فلا يحل أكله». انتهى(1).
وقال أيضًا: «فإن صُنع الخمر في مَرَقة ثم طُبخ، لم يحل أكله، ولا يحل هذا الصنع؛ لأن فيه استعمالَ الخمر كاستعمال الخل، وقد بينَّا أن هذا منهيٌّ عنه»(2).
وقد جاء في «الموسوعة الفقهية»: «طَبَخ بالخمر لحمًا فأكل من مَرَقته، فعليه الحدُّ؛ لأن عينَ الخمر موجودة. وكذلك إن لتَّ- أي: عجن- به سَوِيقًا فأكله، نصَّ على ذلك الشافعية والحنابلة»(3).
فهذا بابٌ ينبغي أن يُغلق إلى الأبد في مطاعم المؤمنين، فالخمر أم الخبائث(4)، وقد لُعن فيها عشَرةٌ(5)، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن(6)، ومدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن(7).
أما استخدام الأطعمة التي استُخدم شيءٌ من الكحول في طَهْيها، فإن كانت هذه النسبة قد تبخَّرت بالكلية فلم يبقَ لها أثرٌ، ولم يُؤثِّر استخدامُها قليلها أو كثيرها على عقل متناولها؛ فقد يكون القول بحِلها قولًا متوجهًا باعتبار الأصل، وإن كان تحقيق القول بتبخرها وزوال أثرها بالكلية عسيرًا في الواقع؛ لأنها تراد لنكهتها في الطعام، ولو أذهب الطهيُ مذاقَها ونكهتها بالكلية لم تعد لإضافتها عند من يضيفونها فائدة.
فتبقى الشبهةُ في عدم زوال أثر هذا الكحول بالكلية، لاسيما عند من يقولون بنجاسة الكحول، وهم الجمهور والسواد الأعظم، وفي إقرار من يقعون في هذا الإثم من أصحاب المطاعم، وإقرارهم على ذلك، فتجنُّب ذلك أحوطُ للدين وأبرأ للذمة، والواجب الاحتساب على هؤلاء والإنكار عليهم ولو بمجرد المقاطعة والاجتناب، وفيما أحله الله ورسوله كفايةٌ وغنية، وما يُراد من النكهة يمكن توفيرُه وأفضل منه من خلال بدائلَ مشروعة. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________________
(1) «المبسوط» (24/25).
(2) «المبسوط» (24/25).
(3) «الموسوعة الفقهية» (25/95).
(4) فعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «اجْتَنِبُوا أُمَّ الْـخَبَائِثِ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ خَادِمًا فَقَالَتْ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِشَهَادَةٍ. فَدَخَلَ فَطَفِقَتْ كُلَّمَا يَدْخُلُ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ جَالِسَةٍ وَعِنْدَهَا غُلامٌ وَبَاطِيَةٌ فِيهَا خَمْرٌ، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نَدْعُكَ لِشَهَادَةٍ وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقْتُلَ هَذَا الْغُلامَ أَوْ تَقَعَ عَلَيَّ أَوْ تَشْرَبَ كَأْسًا مِنْ هَذَا الْـخَمْرِ فَإِنْ أَبَيْتَ صِحْتُ بِكَ وَفَضَحْتُكَ». قال: «فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: اسْقِينِي كَأْسًا مِنْ هَذَا الْـخَمْرِ. فَسَقَتْهُ كَأْسًا مِنَ الْـخَمْرِ. فَقَالَ: زِيدِينِي. فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا وَقَتَلَ النَّفْسَ. فَاجْتَنِبُوا الْـخَمْرَ فَإِنَّهُ والله لا يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْـخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجُلٍ أَبَدًا لَيُوشِكَنَّ أَحَدُهُمَا يُخْرِجُ صَاحِبَهُ». أخرجه النسائي في كتاب «الأشربة» باب «ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر من ترك الصلوات ومن قتل النفس التي حرم الله ومن وقوع على المحارم» حديث (5666)، وابن حبان في «صحيحه» (12/ 169) حديث (5348)، وأخرجه المقدسي في «المختارة» (1/ 502 – 503) حديث (371) مرفوعًا وموقوفًا على عثمان رضي الله عنه ، وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (8/ 287) حديث (17116) موقوفًا على عثمان رضي الله عنه ، وقال المقدسي: «والموقوف هو الصواب»، وذكره الزيلعي في «نصب الراية» (4/ 297) وقال: «رواه البيهقي في سننه موقوفًا على عثمان وهو أصح»، وذكره الألباني في «صحيح سنن النسائي» حديث (5666) وقال: «صحيح موقوف التعليق على المختارة».
(5) أخرجه الترمذي في كتاب «البيوع» باب «النهي أن يتخذ الخمر خلًّا» حديث (1295)، وابن ماجه في كتاب «الأشربة» باب «لعنت الخمر على عشرة أوجه» حديث (3381)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لعن رسول الله ﷺ في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له. وذكره الألباني في «صحيح سنن الترمذي» حديث (1295).
(6) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الحدود» باب «لا يشرب الخمر» حديث (6772)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان نقصان الإيمان بالمعاصي» حديث (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(7) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/272) حديث (2453)، من حديث ابن عباس ب، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/74) وقال: «رجال أحمد رجال الصحيح»، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (677).