هل أَكْل الجبن الشيدر وغيرها من الجبن هنا في كندا حلال أم حرام؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن محل الشبهة في هذه الأجبان وأمثالها يرجع إلى المنفحة التي توضع فيها، والتي يختلف حكمها باختلاف ما أُخذت منه، فإن أُخذت من حيوان قد ذُكِّي ذكاة شرعية فهي طاهرة مأكولة، وإن أخذت من ميتة أو من حيوان لم يُذكَّ ذكاة شرعية فهذا موضع النظر بين الفقهاء، فالجمهور من المالكية(1) والشافعية(2) والحنابلة(3) على أنها نجسة، وذهب أبو حنيفة(4) وأحمد في رواية أخرى عنه إلى طهارتها، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية : حيث قال في «الفتاوى»: «والأظهر أن جبنهم حلال- أي المجوس- وأن إنفحة الميتة ولبنها طاهر»(5). وقال في موضع آخر: «وأما الجبن المعمول بإنفحتهم- أي بعض طوائف الباطنية الكفَّار- ففيه قولان مشهوران للعلماء كسائر إنفحة الميتة وكإنفحة ذبيحة المجوس وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم لا يذكُّون الذبائح، فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين أنه يحلُّ هذا الجبن؛ لأن إنفحة الميتة طاهرة على هذا القول؛ لأن الإنفحة لا تموت بموت البهيمة، وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا ينجس. ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أن هذا الجبن نجس لأن الإنفحة عند هؤلاء نجسة؛ لأن لبن الميتة وإنفحتها عندهم نجس. ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة، وكل من أصحاب القولين يحتجُّ بآثارٍ ينقلها عن الصحابة، فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس، وأصحاب القول الثاني نقلوا أنهم أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصارى. فهذه مسألة اجتهاد للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين»(6). انتهى.
والذي يظهر لنا هو ترجيح القول بحِلِّها. والله تعالى أعلى وأعلم.
______________________
(1) جاء في «منح الجليل» من كتب المالكية (2/413-419): «وكره مالك رضي الله عنه جبن المجوس لما فيه من أنافح الميتة ا هـ. أي: فإن تحقق وضعهم أنافحها فيه حرم قطعا وإن تحقق عدم وضعها فيه أبيح قطعا، وإن شك كره لمجرد الإشاعة ولا يحرم؛ لأن الطعام لا يطرح بالشك ولأن صنائع الكفار محمولة على الطهارة كنسجهم كما اختاره البساط وجماعة واختار ابن عرفة خلافه. وذكر أبو إسحاق التونسي أن جبن المجوس حرام لعدم توقيهم النجاسة قطعًا وجبن أهل الكتاب حلال ومثله عن مالك رضي الله عنه».
(2) جاء في «أسنى المطالب» من كتب الشافعية (1/13): «(والإنفحة)… إن أخذت (من سخلة) مثلا (مذبوحة، وهي) أي، والحال أنها (من) السخلة (التي لم تطعم غير اللبن طاهرة) لما زاده بقوله (للحاجة) إليها في عمل الجبن بخلاف ما إذا أخذت من ميتة».
(3) جاء في «المبدع» من كتب الحنابلة (1/53-56): «(ولبن الميتة وإنفحتها نجسة في ظاهر المذهب) هذا هو المنصور عند أصحابنا، روى سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، أن ابن عباس سئل عن الجبن يصنع فيه أنافح الميتة، فقال: لا تأكلوه، وقال ابن مسعود : لا تأكلوا من الجبن إلا ما صنع المسلمون، وأهل الكتاب، رواه البيهقي، وروي عن عمر وابنه مثله، ولأنه مائع في وعاء نجس، أشبه ما لو حلب في إناء نجس، والثانية: أنهما طاهران، لأن الصحابة فتحوا بلاد المجوس، وأكلوا من جبنهم، مع علمهم بنجاسة ذبائحهم، لأن الجبن إنما يصنع بها، واللبن لا ينجس بالموت إذ لا حياة فيه، والأول أولى، لأن في صحة ما نقل عن الصحابة نظرا، ولو سلم صحته، فكان بينهم يهود ونصارى يذبحون لهم، فلا يتحقق القول بالنجاسة، وفي الكافي ، و الشرح أن الجبن نجس، والخلاف في الإنفحة، والأشهر أن الخلاف فيهما، وقيل: هما في محلهما نجسان، وبعد أخذهما طاهران».
(4) جاء في «تبيين الحقائق» من كتب الحنفية (1/26-27): «ولبن الميتة وبيضها وعصبها وإنفحتها الصلبة طاهرة».
وجاء في «حاشية ابن عابدين» من كتب الحنفية (1/206-207): «(قوله حتى الإنفحة)… (قوله على الراجح) أي الذي هو قول الإمام ، ولم أر من صرح بترجيحه، ولعله أخذه من تقديم صاحب الملتقى له وتأخيره قولهما كما هو عادته فيما يرجحه. وعبارته مع الشرح: وإنفحة الميتة ولو مائعة ولبنها طاهر كالمذكاة خلافا لهما لتنجسهما بنجاسة المحل. قلنا نجاسته لا تؤثر في حال الحياة إذ اللبن الخارج من بين فرث ودم طاهر فكذا بعد الموت. ا هـ ».
(5) «مجموع الفتاوى» (21/103).
(6)«مجموع الفتاوى» (35/154).