السؤال:
هل صح أن السعي على الأرملة والمسكين يعدل الجهاد في سبيل الله؟
وإن صح فما أهمية ذلك في واقعنا المعاصر؟ وما هي أبرز تجلياته وتطبيقاته ؟
وهل أعمال هيئات الإغاثة تدخل في هذا القبيل؟
الجـــــواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﷺ، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعــد:
❐فقد روي الشيخان من حديث أَبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ )
والمراد بالساعي عليهما: ⇣
الكاسب لهما، الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفعهما، والمراد بالأرملة من لا زوج لها، ولا كافل لها،
وليس بالضرورة من مات عنها زوجها فقط كما هو المتبادر،
وسميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج والكافل.
قال النووي:”المراد بالساعي الكاسب لهما، العامل لمؤنتهما، والأرملة من لا زوج لها،
سواء كانت تزوجت أم لا، وقيل هي التي فارقت زوجها، قال ابن قتيبة:
سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج، يقال: أرمل الرجل إذا فني زاده”.
وقال ابن حجر: “السَّاعي: الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملةَ والمسكين”،
ولقد شهدت السنوات الأخيرة تفاقم مشكلة اللاجئين والمشردين في العالم بحيث لم تعد ظاهرة مؤقتة من ظواهر ما بعد الحرب،
ولكن تحولت إلى مشكلة مزمنة تشمل ملايين البشر الذين يفقدون المأوى والإعالة،
ويحاصرهم الجوع والفقر بعد نزوحهم من بلدانهم نتيجة الكوارث والحروب والمنازعات الداخلية، فأصبحوا مشردين في الأرض،
ومنكوبين بالشتات وفقد المأوى ربما لأجيال قادمة.
هذا وتنطلق المفوضية العامة للأمم المتحدة من تعريف رسمي للاجئ يقول:
” إنه مَن يعيش مضطرًا خارج حدود بلد يحمل جنسيته، ولا يستطيع العودة إليه، بسبب انتمائه العرقي أو الديني أو القومي. ”
بينما يطلق وصف المشرّد على المضطر للعيش في غير مكان إقامته داخل وطنه الأم
وتشمل السجلات الرسمية للمنظمة الدولية 21 مليون لاجئ ومشرد في أنحاء العالم،
أكثرهم من السوريين الذي يفوق عددهم سبعة ملايين، والأفغان والذين يزيد عددهم عن ستة ملايين لاجئ،
ثم الفلسطينيون والذين يزيد عددهم عن خمسة ملايين لاجئ ،ولكن الرقم الذي ترجحه المصادر الدولية نفسها يربو على 50 مليونًا،
وربما كان أكبر من ذلك بكثير، إذ لا يوجد إحصاء شامل مثلاً للاجئين والمشرّدين في القوقاز والبلقان وأنجولا وإندونيسيا وغيرها.
وتأسيسًا على هذا الرقم الأخير- (50 مليونًا)- تتراوح نسبة اللاجئين والمشردين من المسلمين ما بين الثلثين إلى أربعة أخماس،
ومعظمهم مشردون ما بين الأقطار الإسلامية نفسها وداخل الوطن الأم، أو خارجه في دول الجوار أو في الشتات عبر العالم!
ولما كان السعي على الأرملة والمسكين يعدل الجهاد في سبيل الله، ومن جنسه في المثوبة، فإن ذلك كما يكون بالنفس،
يكون بالمال، ويكون بالجاه وباللسان، كما جاء في حديث أنس:(جاهدوا المشرِكينَ بأموالِكُم وأنفسِكُم وألسنتِكُم)
【 فيكون بالنفس】
كمن يسعى بنفسه ويبذل جهده ووقته في قضاء حوائج الأرامل والمساكين، فيسعى بنفسه في تدبير شئونهم،
وقضاء حوائجهم، كما يسعى في تدبير شئون أهله وولده، يسعى لدى المصالح الحكومية لقضاء حوائجهم،
يسعى لدى المدارس والجامعات لأولادهم، ويسعى لدى جهات الرعاية الاجتماعية لتدبير شئونهم وإنهاء الإجراءات الإدارية العالقة بهم،
والأسوة الحسنة في ذلك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﷺ: يقول عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضي له الحاجة)
رواه النسائي وصححه الألباني.
وفي رواية للحاكم: (كان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﷺلا يستنكف أن يمشي مع الضعيف والأرملة،
فيفرغ لهم من حاجاتهم).
【 ويكون بالمال】
فيسعى بماله في توفير إعاشتهم من زكواته ومن صدقاته التطوعية، وقد أثِرَ على سبيل المثال أنَّ مائة بيتٍ كانوا بالمدينة،
كان الحسَنُ سِبْطُ رسولِ الله ﷺ يقُوم على رعايتهم، ولم يعلم بذلك إلا لمَّا توفِّي رضي الله عنه وأرضاه.
▪︎كما يسعى في ذلك بجاهه، بالحض على إطعامهم لدى ذوي اليسار في الامة،
ولا يقتصر السعي والبذل على ما يكون من ماله، ومن ذلك ما تفعله الهيئات الإغاثية في هذا البلد حيث تطوف أنحاءه يمنة ويسرة تحض على طعام المسكين،
وتحتمل ما يكون أحيانا من تضجر وتأفف من قبل بعض إدارات المساجد، التي تقدر أن حاجاتها المحلية أولى بالرعاية والاهتمام،
فيتحملون العبوس وتقطيب الوجوه!
وهم لا يسألون لأنفسهم بل لتأمين إعاشة هؤلاء المحاويج، فيريقون ماء وجوهم في سبيل الله عز وجل،
ولعل إراقة ماء الوجه في سبيل الله ليست بأدنى من إراقة دم الشهيد في سبيل الله!
【 ويكون باللسان 】
حضًا على إطعامهم وإغاثتهم وإعالتهم والسعي في قضاء حوائجهم، وكان سيد الأولين والآخرين يباشر ذلك بنفسه ﷺ،
فلقد روي مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله قال:
( كنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في صَدْرِ النَّهَارِ، قالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حفَاةٌ عرَاةٌ مجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ،
متَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِن مضَرَ، بَلْ كلُّهُمْ مِن مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِما رَأَى بهِمْ مِنَ الفَاقَةِ،
فَدَخَلَ ثمَّ خَرَجَ، فأمَرَ بلَالًا فأذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثمَّ خَطَبَ فَقالَ:
( تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ، مِن دِرْهَمِهِ، مِن ثَوْبِهِ، مِن صَاعِ برِّهِ، مِن صَاعِ تَمْرِهِ، حتَّى قالَ، ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ قالَ:
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ،
حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، كَأنَّهُ مذْهَبَةٌ، )
وقد مدحه أبو طالب بقوله:وَأَبْيَضُ يسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَة لِلأراملِ
(ثِمَالُ اليتامى): مغيث ومعين اليتامى، يتولى أمرهم ويقوم بهم، (عصمة للأرامل): يمنعهم ما يضرهم،
والأرامل: جمع أرملة، وهي التي لا زوج لها. وتأملوا معي هذه الآيات الكريمات في الحض على طعام المسكين:
{خذُوهُ فَغُلُّوهُ ثمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه إِنَّهُ كَانَ لَا يؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقةٍ] وقوله تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِين} [الماعون] وقوله تعالى {وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر]
ومن السلف من اثر عنه أنه رجع عن الحج لينفق مال الحج في إغاثة ملهوفين وإطعام مرملين مساكين،
فقد ذكر ابن كثير في ترجمة عبد الله بن المبارك من (البداية والنهاية) فقال:
خرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم،
فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته، ثم أسرعت به إلى الدار،
فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار،
وليس لنا قوت إلا ما يلقي على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظلم وأخذ ماله، وقتل،
فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار. فقال:
عد منها عشرين دينارا تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام، ثم رجع. اهـ.
حقًا إنه لفريضة ينبغي إحياؤها في عالمنا المأزوم!
ورحم الله ابن بطال الذي قال: كما جاء في شرحه لصحيح البخاري: “من عجز عن الجهاد في سبيل الله وعن قيام الليل وصيام النهار،
فليعمل بهذا الحديث وليسْعَ على الأرامل والمساكين ليُحشر يوم القيامة في جملة المجاهدين في سبيل الله دون أن يخطو في ذلك خطوة،
أو ينفق درهما، أو يلقى عدواً يرتاع بلقائه، أو ليحشر في زمرة الصائمين والقائمين وينال درجتهم وهو طاعم نهاره نائم ليلة أيام حياته،
فينبغي لكل مؤمن أن يحرص على هذه التجارة التي لا تبور، ويسعى على أرملة أو مسكين لوجه الله تعالى فيربح في تجارته درجات المجاهدين والصائمين والقائمين من غير تعب ولا نصَب،
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”.هذا وباللهِ التوفيـق و الله أعـلىٰ وأعلـم
يمكنكم الإطلاع على المزيد من فتاوى الأسرة المسلمة الخاصة بفضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي
كما ويمكنكم متابعة كافة الدروس والمحاضرات والبرامج الخاصة بفضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي