والله يا شيخ أنا منافق، مدمن لمعصية ما، وكلَّ مرة أحرك لساني بتوبة أعلم في قرارة نفسي أني سأعود لضعف وغلبة عشق هذه المعصية، وأنا لم أرضَ عن نفسي أبدًا، ولكنها غلبة الشهوة وإدمان المعصية بعشق.
أشعر بأن إدماني لهذه المعصية، وهي شهوة النظر للنساء، ولكن لا أزني ولا أخالطهن، ولكن فقط إدمان النظر للنساء. هذه المعصية تجعلني أشفق على المدمنين كمدمن الهيروين مثلًا. ماذا أفعل؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن إقرارك بخطيئتك وبغضك لها دليل على بقية من عافية في قلبك، فلا تقنط من رحمة الله(1)، ولا تَيْئَس من رَوْحه(2)، وبادر إلى الزواج إن كنت عزبًا، فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، كما أخبر بذلك نبيك ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»(3).
وهناك جملة من الأمور إن تذكرتها واستحضرتها كانت عونًا لك على ما تنشده من العفاف وغض البصر، نذكر لك منها:
– أن تتذكر دائمًا أن الله مطلع عليك لا تخفى عليه من أمرك خافية؛ لتخافه وتستحيي منه، ولا تجعله أهون الناظرين إليك. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، وقال عليه الصلاة السلام: «أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحْيِي مِنَ الله تَعَالَى كَمَا تَسْتَحْيِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ قَوْمِكَ»(4).
– أن تذكر نفسك يا بني كلما راودتك على النظر بقول ربك جل وعلا: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ [النور: 30]، وقوله ﷺ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ: الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْـخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ»»(5).
وعن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله ﷺ عن نظرة الفجأة فقال: «اصْرِفْ بَصَرَكَ»(6).
وقوله ﷺ: «يَا عَلِيُّ، لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الثَّانِيَةُ»(7).
والنظرة الأولى هي التي وقعت بغير قصد.
– أن تذكر شهادة العينين عليك يوم القيامة، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 20].
وفي «صحيح مسلم» عن أنس قال: كنا عند رسول الله ﷺ فضحك، فقال: «هَلْ تَدْرُونَ مَمَّا أَضْحَكُ». قال: قُلْنَا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال: «مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟» قال: «يَقُولُ: بَلَى». قال: «فَيَقُولُ: فَإِنِّي لا أُجِيزُ على نَفْسِي إلَّا شَاهِدًا مِنِّي». قال: «فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا». قال: «فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ- أي جوارحه-: انْطِقِي». قال: «فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ». قال: «ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ». قال: «فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كنت أُنَاضِلُ»(8).
– وأن تذكر الملائكة الذين يحصون عليك أعمالك، قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، وقال أيضًا: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار: 10 – 12].
– وأن تذكر شهادة الأرض التي تمارس عليها المعصية، قال تعالى عن الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، وفسر النبي ﴿أَخْبَارَهَا ﴾ [الزلزلة: 4] «أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، تَقُولُ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا»(9).
أن تُكثر من نوافل العبادات، فإن الإكثار منها مع القيام بالفرائض سببٌ في حفظ الله لجوارحك، كما في الحديث القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْـحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْـمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْـمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»(10).
– وقبل ذلك كله ومع ذلك كله الاستعانة بالله عز و جل ، والانطراح بين يديه، والإلحاح عليه، في أن يقيك شرَّ هذه الفتنة وأن يعصمك منها.
وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»(11).
وقال تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» [البقرة: 186].
وكان من دعائه ﷺ: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ»(12).
وكان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي»(13).
نسأل الله أن يردك إليه ردًّا جميلًا، وأن يرزقك الهدى والتقى والعفاف الغنى. والله تعالى أعلى وأعلم.
____________________
(1) قال تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
(2) قال تعالى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
(3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «النكاح» باب «من لم يستطع الباءة فليصم» حديث (5066)، ومسلم في كتاب «النكاح» باب «استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه» حديث (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» ص39 حديث (91)، وأحمد في «الزهد» ص46، من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه ، وذكره الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (4306)
(5) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الاستئذان» باب «زنى الجوارح دون الفرج» حديث (6243)، ومسلم في كتاب «القدر» باب «قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره» حديث (2657)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(6) أخرجه مسلم في كتاب «الآداب» باب «نظر الفجاءة» حديث (2159)، وأبو داود في كتاب «النكاح» باب «ما يؤمر به من غض البصر» حديث (2148)، واللفظ لأبي داود.
(7) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/159) حديث (1373)، والدارمي في كتاب «الرقاق» باب «في حفظ السمع» حديث (2709) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/63) وقال: «رواه أحمد وفيه ابن إسحاق وهو مدلس وبقية رجاله ثقات»، وذكره الألباني في «صحيح الجامع» حديث (7953).
وأخرجه أبو داود في كتاب «النكاح» باب «ما يؤمر به من غض البصر» حديث (2149)، والترمذي في كتاب «الأدب» باب «ما جاء في نظرة المفاجأة» حديث (2777) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه . وقال الترمذي: «حسن غريب»، وحسنه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» حديث (2149).
(8) أخرجه مسلم في كتاب «الزهد والرقائق» حديث (2969).
(9) أخرجه الترمذي في كتاب «تفسير القرآن» باب «ومن سورة إذا زلزلت» حديث (3353) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
(10) أخرجه البخاري في كتاب «الرقاق» باب «التواضع» حديث (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(11) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم الظلم» حديث (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه .
(12) أخرجه الترمذي في كتاب «الدعوات» باب «ما جاء في عقد التسبيح باليد» حديث (3502) من حديث ابن عمر رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «حديث حسن».
(13) أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «في الاستعاذة» حديث (1551)، والترمذي في كتاب «الدعوات» باب «ما جاء في عقد التسبيح باليد» حديث (3492) من حديث شكل بن حميد رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «حديث حسن».