حضرت درسًا في الجامع الأزهر في «شرح صحيح البخاري»، وجاء حديث في باب البيوع، وقد ذُكِر فيه أمُّ أيمن ل، فقام الشيخ بالتطرُّق إلى قضيةِ بول الرسول ، فقال الشيخ: إنَّ طهارة بول الرسول عليه الصلاة والسلام أمرٌ مُجمَعٌ عليه بين العلماء، بدليل أنَّه فعل أشياءَ يستلزم معها طهارة كلِّ شيء فيه، مثل الإسراء والمعراج، والتحدث مع جبريل … إلخ، وقد بدَّع الشيخ- غفر الله له- كلَّ من يقول بغير هذا القول، وغلَّب عليه سوء الخاتمة، فما رأي فضيلتكم في صحة هذا الكلام؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
التبرك من الأمور التوقيفية التي تفتقر حتمًا لدليل، فبركة الزمان والمكان والأشخاص والأعمال والأشياء تفتقر إلى دليل؛ لأن مرجعَها لله تعالى، فأي دعوى في هذا الشأن بغير دليل مطروحةٌ لا وزن لها، فالله وحده هو الذي يختار ويفضل ويصطفى ويجتبي، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68].
وتأمَّل أخا الإسلام بما ختم الله تعالى هذه الآية.
واعلم- رحمنا الله وإياك- أنه لا يجوز التبرُّك بالأشخاص لا بذواتهم ولا آثارهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وما انفصل من بدنه من عَرَق وشعرٍ وغير ذلك مما وردت به الأدلة الصحيحة، وقد انقطع ذلك بموته صلى الله عليه وسلم وذهابِ هذه الآثار.
واعلم كذلك- أخا الإسلام رحمنا الله وإياك- أن الأزهر كذلك يرفض التبرُّك ببول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا لما جاء في بيان عن مجمع البحوث الإسلامية، وهو الممثِّل لعلماء الأزهر رسميًّا.
أما عن الإجماع الذي ذكرتَه فهو غيرُ واقع، والخلاف في طهارة بولِه صلى الله عليه وسلم معروفٌ في كتب الفقه.
ولا يُوصَف المخالف في الأمور الفقهية الظنية التي لم يُجمَع عليها بالبدعة، ويسعُنا ما وَسِعَ سلفُنا الكرام، كما جاء في بيان المجمع في المقدمة المشار إليها.
أما عن سوء الخاتمة، فنسأل الله تعالى لجميع المسلمين حُسن الخاتمة، وكيف يقالُ ذلك على مَن اجتهد وإن أخطأ، بل هو مأجور لا مأزور، ولو بأجر واحد إن أخطأ كما في الحديث(1)، فكيف حينئذٍ يُساء خاتمة مأجور؟! إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
واعلم أن حديثَ شُرب بول النبي صلى الله عليه وسلم (2) على فرْضِ حُسنه لا يُستفاد منه جوازُ التبرُّك؛ لانتفاء الأمر بذلك أو إقراره، فالحادثة إن صحَّت حدثت وفاقًا لا اتِّفاقًا، ولم تتكرَّر، ولو تكررَّت لنُقِلت، كما تواتر في غير ذلك من التبرُّك بماء وضوئه وعرقه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، ممَّا يؤكد أنَّها حادثة عينٍ لا عمومَ لها، ولتعلم أن الحديث على فرضِ حُسنه يُبيِّن أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما أمر بذلك ولا أقرَّها قبل شُربها، إنما عَلِم بعد فِعْلِها.
واعلم أن نبيَّنا الكريم صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئًا من خيري الدنيا والآخرة إلا أرشد إليه وحض عليه، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» باب «أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ» حديث (7352)، ومسلم في كتاب «الأقضية» باب «بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ» حديث (1716) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه .
(2) حديث شرب بول النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الحاكم في «مستدركه» (4/70) حديث (6912)، والطبراني في «الكبير» (25/89) حديث (230)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/67) ترجمة (47)، من حديث أم أيمن ل قالت: قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة من جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشى فشربت من في الفخارة وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أُمَّ أَيْمَنَ قُومِي إِلَى تِلْكَ الْفَخَّارَةِ فَأَهْرِيقِي مَا فِيهَا». قلت: قد والله شربتُ ما فيها. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: «أَمَا إِنَّكَ لَا يَفْجَعُ بَطْنُكِ بَعْدَهُ أَبَدًا»، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/271) وقال: «رواه الطبراني وفيه أبو مالك النخعي وهو ضعيف».