هذا سؤالٌ طُرح في أحد المنتديات وأرجو الجوابَ دعـــوةً للمُتدبِّرين.
الحمد لله الذي لا معبودَ بحقٍّ إلا هو، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين، وعلى آلِه وصحبه. وبعد:
تبدأ سورة الجنِّ بأمر النَّبي بالقول أنه أُوحي إليه أنه استمع نَفَرٌ من الجنِّ فلما سمعوا قالوا لغيرهم أنهم سمعوا قرآنًا عجبًا، وأن هذا القرآنَ يهدي إلى الرُّشد فآمنوا به، ولن يُشركوا بربِّهم أحدًا، وأنه تعالى قدر الله فلم يتَّخذ صاحبةً ولا ولدًا.
فإذا نظرنا فيما قاله الإمام الفخر الرازي في تناوله لهذه الآية وجدناه يقول: «المسألة الثَّانية: ﴿نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الجن: 1] جماعة منهم ما بين الثَّلاثة إلى العَشَرة، رُوي أن أولئك النَّفَر كانوا يهودًا، وذكر الحسنُ أن فيهم يهودًا ونصارى ومجوسًا ومشركين، وكأن هؤلاء الجنَّ لما سمعوا القرآنَ تنبَّهوا لفساد ما عليه كفرةُ الجنِّ فرجعوا أوَّلًا عن الشرك وثانيًا عن دين النَّصارى»(1). اهـ.
أوَّل ما يلحظه النَّاظر في هذه الآية يجد أن هؤلاء الجنَّ يدينون بواحدٍ من الأديان التي عليها أهل الأرض، وهو النصرانية، ولقد قال الإمام الرازيُّ: «إنهم كانوا خليطًا من الأديان؛ لأنهم قالوا: لن نُشرك بربِّنا أحدًا، وإنه ما اتَّخذ صاحبةً ولا ولدًا. ففُهم أنه كان فيهم مشركون ونصارى مسيحيين، فالمسيحيُّ يُشرك بالله عيسى، ويُؤمن أنه اتَّخذ صاحبةً وولدًا، فلما سمع هؤلاء القرآنَ أعلنوا أن الشِّركَ باطلٌ؛ لذا فلن يُشركوا بالله ونزَّهوه عن الصَّاحبة والولد».
التَّساؤلات: كيف اقتنع الجنُّ بالنَّصرانيَّة المحرَّفة؟ ألم يكونوا قد رَأَوُا السيد المسيح يدعو إلى الله، ورأوا بولس يُغيِّر ويُحرِّف، ورأوا الإمبراطور قسطنطين يُطعـم ديانته الوثنيَّة بالنَّصرانيَّة؟! فلماذا وكيف آمنوا بها؟! ثم لماذا يؤمنون بالنَّصرانيَّة أصلًا إذا كان المسيحُ- تبعًا للمسيحيَّة المحرَّفة- قد افـتـدى بدمائه خطايا البشر وليس الجن، وحرَّر البشر من خطيئة آدم الأصليَّة والتي يُولدون مُحمَّلين بها، وليس الجن؟! فما الذي يُقنع الجنَّ أن يُؤمنوا بهذا الأمر الذي لا علاقة لهم به!
إذا نحن نظرنا في التَّوعُّد الذي توعَّده إبليس عند طرده وجدنا أنه قد توعَّد بإضلال البشر، وأنه سيقعد لهم صراط الله المستقيم؛ لأنه طُرد بسببهم(2)، فهل سيقعد إبليسُ للجنِّ كذلك؟ وإذا قلنا: إنه سيقعد لهم صراط الله المستقيم فمن المفترض أنه كان واحدًا منهم، فهل كان يُوسوس إليهم؟ أم أنه كان يأتيهم فيُحدثهم عن تجسُّد الله وحلوله في بطن السيدة مريم!
وحقيقة لستُ أدري كيف أقـنع إبليسُ الجنَّ بعقيدة الفداء والصلب المزعومة، والتي لا شأن للجنِّ بها؟! فهل قال لهم إن اللهَ- تعالى جَدُّه وتنزَّه- تجسَّد وافتدى خطايا الجنِّ التي ورثوها عن إبليس؟! إن كانت المسيحيَّة ديانةً لا تُخاطب إلا البشر فلماذا يُؤمن بها الجنُّ؟
______________
(1) «التفسير الكبير» للرازي (30/136- 137).
(2) قال تعالى على لسان إبليس: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 16- 17].
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإنني أراك بهذه الـمُقدِّمات تُحاكم ضُلَّالَ الجنِّ ومشركيهم إلى المنطق، ومتى كان للضَّالِّ في ضلاله منطق؟! وهل الذين عبدوا الأبقار كان لهم منطق؟! وهل الذين عبدوا بوذا كان لهم منطقٌ؟! بل هل لعبدة الشَّيطان منطق أيُّها الموفَّق؟
لقد ذرأ ربُّك لجهنم كثيرًا من الجنِّ والإنس لهم قلوبٌ لا يعقلون بها ولهم أعينٌ لا يُبصرون بها ولهم آذن لا يسمعون بها(1)؛ ولهذا يقولون يوم القيامة: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10].
فخلِّ عنك هذا الاسترسال المنطقيَّ في شأن هؤلاء وأمثالهم، فليس للباطل منطق، بل هو الهوى والتِّيه والتَّخبُّط. ونسأل اللهَ لنا ولك العافية. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــ
(1) قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].
حول عقيدة الجن
تاريخ النشر : 15 أغسطس, 2017
التصنيفات الموضوعية: 03 الإيمان بالملائكة