حول شبهة نفيُ الأميَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال:
لقد شاع فيما يتداولُه بعضُ الناس على وسائل التواصل الاجتماعي شبهة نفيُ الأميَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
ويؤكدون أن النبيَّ كان يَعلم القراءة والكتابة، وأن معنى الأمِّيَّة التي نسبت إليه أو وصف بها كونُه لم يكن يهوديًّا أو لم يكن كتابيًّا.
ويموه على زعمه هذا بأن العربَ تقوَّلوا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يؤلف القرآن من عندِ نفسه،
ولو كان أميًّا حقًّا لما كان لهذه الشبهة وجود وكانت مثارًا للسخرية.
فما هو الردُّ على هذه الشبهة التي يتداولها بعض الناس ويزعمون أنهم يدافعون بها عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
أفتونا مأجورين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على معنى الأميَّة التي وُصف بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم،
وهو كونُه لا يقرأ من كتابٍ، ولا يكتب، ولا يحسِب، فهو على جِبِلَّتِه التي ولدته أمه عليها،
لأن كلًّا من الكتابة والقراءة من كتابٍ مكتسبة ومتعلمة.
وقد اتفق على هذا أئمةُ اللغة وأئمةُ التفسير.
يقول ابن منظور: «معنى الأميِّ المنسوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أمُّه، أي لا يكتب، فهو أمي، لأن الكتابة مكتسبة،
فكأنه نُسب إلى ما يُولد عليه، أي على ما ولدته أمه عليه»(1).
وقال الزهري: «قيل للذي لا يكتب ولا يقرأ: أمي؛ لأنه على جبِلَّتِه التي ولدته أمُّه عليها، والكتابة مُكتسبة متعلَّمَة،
وكذلك القراءة من الكتاب»(2).
وقال الراغب الأصبهاني: «الأميُّ هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وعليه حمل قول تعالى:
{هوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]»(3).
ويقول الطبريُّ رحمه الله: «يعني بالأميين الذين لا يكتبون ولا يقرأون، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ»(4). وبمثل قوله قال أئمة التفسير»(5).
وقد أكَّد القرآنُ الكريم هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:
{وَمَا كنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت: 48].
ولو كان يقرأ أو يكتب لارتاب الذين في قلبهم مرض، فأصبحت أميتُه من أظهر الأدلة على صدقِه صلوات ربي وسلامه عليه.
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157]،
ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أميًّا لوجد المكذبون له من مشركي قريش وغيرهم ومن اليهود ما يطعنون به هنا،
فهم يعلمون أن هذه الآية نزلت عليه، ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال له: لا، نحن نعلم أنك غيرُ أمي.
هذا مع أنهم لجئوا إلى كل وسيلة من أجلِ دفع ما جاء به، فقالوا: كذاب، وقالوا ساحر.
وفي حديث ابن عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ؛ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا».
وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ. «وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا». يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ(5).
وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه كتَّابًا يكتبون الوحي،
ولم تذكر كتبُ الحديث أو السِّيَر أنه- صلى الله عليه وسلم- قام بكتابةِ الوحي بنفسه،
ولو كان عالمًا بالقراءة والكتابة لفعل ذلك ولو لمرة واحدة، ولكن لم يؤثر عنه ذلك.
أما شغبهم بمثل قوله تعالى: {وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. وقولهم: كيف يعلم الكتاب من لا يحسن الكتابة؟
فالجواب عن هذا بما يدركه العقلاء بالبداهة: أن تعليم القرآن لا يلزم منه أن يكون المعلم كاتبًا أو قارئًا من كتاب،
فهذا من جملة لزوم ما لا يَلزم، فقد يُقرِئ القرآنَ ويُعلِّمُه من حفظِه عن ظَهرِ قلب، ويُجاز على يديه آلافُ الحَفَظَة،
ولعلَّه قد ولد ضريرًا، ولم يطالع في حياته كتابًا قط.
وأما ما استدلوا به مما رواه البخاري في قصَّة الحديبية عن البراء رضي الله عنه قال:
لما اعتمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، أبى أهلُ مكة أن يَدَعُوه يدخل مكَّة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام،
فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. قالوا:
لا نقرُّ لك بهذا، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا، ولكن أنت محمد بن عبد الله. فقال:
«أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله». ثم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «امْحُ (رَسُولَ الله)» قال علي:
لا والله لا أمحوك أبدًا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يَكتُب، فكتَبَ:
«هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، لا يدخل مكةَ السِّلاحُ إلا السيفَ في القراب»(6).
فالجوابُ عن هذه الشبهة أن الجمع بين الروايات يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا رضي الله عنه أن يمحو كلمة:
«رسول الله» فرفض عليٌّ ذلك، فطلب منه أن يريَه مكانها، فمحاها بيده، ثم أمره بكتابةِ ما سأله القومُ،
وهو «محمد بن عبد الله».
وأما ما استدلوا به مما جاء في «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ». ثمَّ تَهَجَّاهَا (ك ف ر)(7).
فإن الجوابَ عن ذلك: أنه ليس في الحديث دلالةٌ على كونِه صلى الله عليه وسلم كان يعرف القراءة،
فإن تهجِّي الكلمات يشمل نوعين: تهجي الكلمات المسموعة، وهذا أمر يشترك فيه المتعلِّمُ والأميُّ على السواء،
وتهجِّي الكلمات المكتوبة، وهذا لا يقدر عليه إلا من كان يحسن القراءةَ.
وإذا كان الأمر كذلك فليس في الحديث دلالةٌ على معرفة النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نطقَ الكلمةَ ثم تهجَّاها.
وأخيرًا فإن الشبهة الاستشراقية التي يرَوِّجُها المستشرقون لتكون مدخلًا لهم إلى نشر الريبة حول عصمة القرآن الكريم،
وكونه وحيًا من عند الله عز وجل، لا تصمد أمام حقيقة هامة، وهي أن أهل مكة الذين عاشوا معه وعلموا أخباره،
وعرفوا مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته، قد أقرّوا جميعًا بأميَّته، ولن يجد القوم في كتاب من كتب التاريخ أن أحدًا من أعداء الرسالة أثار شغبًا حول هذه الحقيقة قط.
وأخيرًا فإن مثل هذا الشغب ينبغي أن يعرض أولًا على ذاكرة التاريخ، فإن لم يسبق إلى القول بمثل ذلك أحدٌ من أئمة العلم والدين فلا ينبغي أن نشغل نفسنا به،
فإن الحق لم يزل يتنقل عبر القرون في صورة أمَّةٍ من الناس تحمِله، ولم يغلق الله فهمَ حقيقةِ من حقائق الإسلام على الأمة كلِّها في عصر من العصور، فإن القول بمثل هذا من سوء الظن بالله عز وجل.
والله تعالى أعلى وأعلم.
________________________
(1) لسان العرب لابن منظور، ج12/34.
(2) الزاهر للأزهري الهروي ، ج1/109.
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الصوم» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم:
لا نكتب ولا نحسب» حديث (1913)، ومسلم في كتاب «الصيام» باب «وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يومًا» حديث (1080)،
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4) «تفسير الطبري» (1/373).
(5) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الصوم» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم:
لا نكتب ولا نحسب» حديث (1913)، ومسلم في كتاب «الصيام» باب «وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يومًا» حديث (1080).
(6) أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» باب «عمرة القضاء ذكره أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم» حديث (4251).
(7) أخرجه مسلم في كتاب «الفتن وأشراط الساعة» باب «ذكر الدجال وصفته وما معه» حديث (2933).
يمكنكم الإطلاع على المزيد من فتاوى المرأة المسلمة الخاصة بفضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي.
كما ويمكنكم متابعة كافة الدروس والمحاضرات والبرامج الخاصة بفضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي