ما رأيكم في الرأي القائل بأن أجداد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ووالديه كانوا على دين النبي إبراهيم u موحدين، ويستدلون بقول الله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 219].
وقد ذكر بعض المفسرين مثل ابن كثير وغيره هذا الرأي من جملة الآراء في تفسير هذه الآية ولم يستبعدوه، وخصوصًا الفخر الرازي الذي مال لهذا الرأي في «تفسيره»، وقد ألف السيوطي مؤلفات في دخول والدي النبي الجنة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن هذه المسألة من قضايا النظر بين أهل العلم: ويتفرع القول فيها على القول في حكم أصحاب الفترات، وهم من عاشوا في زمن لم يأتهم فيه رسول، أو كانوا في مكان لم تصلهم فيه الدعوة: فمنهم من عذر أهل الفترات عمومًا، ومنهم من لم يعذرهم، ومنهم من قال: يمتحنون في عرصات يوم القيامة.
فمن عذر أهل الفترات استدل على هذا بما استفاض في القرآن الكريم من نفي العذاب قبل إرسال الرسل، كقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165]، وفي الآية تصريح بأن الله جل وعلا قد قطع حُجَّة كل أحد بإرسال الرسل، وهذه الحجة قد بينها في عديد من الآيات القرآنية، كقوله تعالى في سورة طه: لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَىٰ [طه: 134]، وقوله تعالى في سورة القصص: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 47]، وقوله تعالى: لِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131]، وقوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 19]، وكقوله تعالى: وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿155﴾ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿156﴾ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ ۚ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ۚ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ۗسَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام: 155- 157]، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله جل وعلا لا يعذب أحداً إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو ما صرح به في قوله جل وعلا: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴿8﴾ قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [الملك: 8- 9]، ومعلوم أن كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ يعمُّ جميع الأفواج الملقين في النار.
ومن لم يعذرأهل الفترات استدل بظواهر بعض الآيات القرآنية التي تقضي على عموم الكفار بالخلود في النار، كقوله تعالى: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 91]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف: 50]، إلى غير ذلك من الآيات.
والظاهر في هذه الآيات العموم؛ لأنها لم تخصِّص كافرًا دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار.
كما استدلوا من السُّنة المطهرة بما جاء في بعض أهل الفترة بأنهم يعذبون، وغيرهم مقيس عليهم، ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك ما صحَّ من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار لأمه. وما صحَّ عنه أنه قال لمن سأله أين أبي: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ».
ومن قال بامتحان أهل الفترات، فقد قال: إن من لم تُقَم عليهم حجة الله في الدنيا فإن الله يقيم حجته عليهم في الآخرة، وأحق الـمَواطن أن تُقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد، وتُسمع الدعاوى، وتُقام البينات، ويَختصم الناس بين يدي الرب، وينطق كلُّ أحدٍ بحجته ومعذرته، فلا تنفع الظالمين معذرتهم، وتنفع غيرهم، وذلك بأن ترفع لهم نار يأمرون باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل، ومن لم يقتحمها عذب.
واستدلوا على هذا ببعض النصوص المروية في هذا الباب، والتي قال فيها ابن كثير :: «أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح، كما قد نصَّ على ذلك غيرُ واحد من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يقوَى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها. نذكر منها:
«أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ. فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا. وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ. وَأَمَّا الْـهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا. وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ. فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا».
هذه هي مقالات أهل العلم في أصحاب الفترات بصفة عامة، وأرى أن نقف عند هذاالقدر العام، فإن تشقيق القول في مثل هذه المسائل لا يُفيد، وما يجره من مفاسد الخلاف فيها في زمننا هذا أضعاف ما يتضمنه العلم بها من مصالح، فاشتغل بما ينفعك، بارك الله فيك وزادك حرصًا وتوفيقًا. والله تعالى أعلى وأعلم.
شبهة في ملة آباء النبي صلى الله عليه وسلم
تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية: 03 العقيدة