هل سماع الأغاني حرام إذا لم يكن بها ما يخدش الحياء؟ وهل الاستماع إلى الأناشيد كذلك حرام، أي أنه لابد أن تكون بدون موسيقى إذا كان كذلك؟ ما الحكمة من تحريم الموسيقى؟ أرجو الإجابة على سؤالي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الغناء والإنشاد إذا خلا عن المعازف كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، أما الأغاني المشتملة على المعازف فإن جمهور أهل العلم على تحريمها(1)، لم يستثنوا من المعازف إلا الدف في الأفراح، وفي تحريمها حِكَم كثيرة، نذكر لك منها:
1- أنها مِزمَار الشيطان، وهي صوته الذي يغوي به بني آدم، قال تعالى: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: 64]
قال مجاهد: «باللهو والغناء. أي: اسْتَخَفَّهم بذلك»(2).
قال القرطبي: «في الآية ما يَدُلُّ على تحريم المزامير والغناء واللهو؛ لقوله: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 64]»(3).
2- أنها تَصُدُّ عن ذِكْر الله، فلا يَجْتَمِع كلام الرحمن وكلام الشيطان في قَلْبٍ بحيث يَنْتَفِع به صاحبه. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [لقمان: 6، 7]
ولاحِظ الترابط بين اتِّخاذ اللهو- وهو الغناء- وبين الصَّدِّ عن سبيل الله، وأنَّ صاحبه لا يتأثَّر بِكلام الله تبارك وتعالى؛ ولذا قال ابن القيم ::
حُبُّ الكِتاب وحُبُّ ألْـحَان الغناء
في قلبِ عَبْد ليس يَجْتَمِعانِ(4)
وليس المقصود أنه لا يُوجَد مَن يقرأ القرآن وهو يَستمع إلى الغِناء، بل يُوجَد ولكنه لا ينتفع به.
3- أن الغناء رُقيَة الزِّنى، والمقصود بالزنى هنا معناه الواسع الذي وردت الإشارة إليه في مثل قوله ﷺ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ: الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْـخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ»(5). كما قال غير واحد مِن السَّلف، أي أنه يَدْعو إلى ذلك، وهذا صحيح، فهل رأيت مُطرِبًا يَدعو إلى فضيلة؟!
4- أن الغناء يُنْبِت النِّفاق في القلب، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه (6)، قال ابن القيم :: «فالغناء يُفْسِد القلب، وإذا فَسَد القلب هَـاج فيه النفاق»(7). اهـ.
5- ما يُحْدِثه الغناء مِن نَشْوَة وطَرَب، وقد أثْبَتَتْ دِراسات علمية تأثير الغناء على السائقين، كَما أثْبَتَت دِراسات علمية أيضًا تأثير القرآن في جَلْب السَّكِينَة، وكانت تجارب أُجْرِيَتْ على مسلمين وكُفَّار أثْبَتَتْ ذلك!
6- ما يُحْدِثه الغناء مِن قَسْوة في القلب، وقد اسْتَعاذ النبي ﷺ مِن قَلْبٍ لا يَخْشَع، كما في «صحيح مسلم»(8). قال الضحاك: «الغناء مَفسدة للقلب مَسخطة للرَّب»(9).
إن الحكم كثيرة، وقد ذكرنا لك طرفًا منها، ونسأل الله أن يملأ قلبك حبًّا لكتابه، وخشوعًا عند استماعه، وأن يُعوِّضك بهذا عن مزامير الشيطان. والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________
(1) جاء في «الاختيار» (4/163-166): «(واستماع الملاهي حرام) كالضرب بالقضيب والدف والمزمار وغير ذلك».
وجاء في «حاشية الدسوقي» (4/18-19): «(و) كره (كراء دف) بضم الدال وقد تفتح، وهو المدور المغشي من جهة كالغربال (، ومعزف) واحد المعازف قال الجوهري المعازف الملاهي فيشمل المزمار والأعواد والسنطير بناء على كراهتها (لعرس) أي نكاح وقيل هي جائزة في النكاح، ولا يلزم من جوازها جواز كرائها والراجح أن الدف والكبر جائزان لعرس مع كراهة الكراء، وأن المعازف حرام كالجميع في غير النكاح فيحرم كراؤها».
وجاء في «أسنى المطالب» (4/344-346): «(وأما الغناء على الآلة المطربة كالطنبور والعود وسائر المعازف) أي الملاهي (والأوتار) وما يضرب به (والمزمار) العراقي وهو الذي يضرب به مع الأوتار (وكذا اليراع) وهو الشبابة (فحرام) استعماله واستماعه وكما يحرم ذلك يحرم استعمال هذه الآلات واتخاذها لأنها من شعار الشربة وهي مطربة».
وجاء في «مغني المحتاج» (6/348-349): «(ويحرم) (استعمال) أو اتخاذ (آلة من شعار الشربة) جمع شارب وهم القوم المجتمعون على الشراب الحرام، واستعمال الآلة هو الضرب بها (كطنبور) بضم الطاء، ويقال الطنبار (وعود وصنج) وهو كما قال الجوهري: صفر يضرب بعضها على بعض، وتسمى الصفاقتين؛ لأنهما من عادة المخنثين (ومزمار عراقي) بكسر الميم، وهو ما يضرب به مع الأوتار (و) يحرم (استماعها) أي الآلة المذكورة؛ لأنه يطرب ولقوله صلى الله عليه وسلم: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والمعازف. قال الجوهري وغيره: المعازف آلات اللهو».
وجاء في «المغني» (10/153-155): «فصل: في الملاهي: وهي على ثلاثة أضرب؛ محرم، وهو ضرب الأوتار والنايات، والمزامير كلها، والعود، والطنبور، والمعزفة، والرباب، ونحوها، فمن أدام استماعها، ردت شهادته؛ لأنه يروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ظهرت في أمتي خمس عشرة خصلة، حل بهم البلاء. فذكر منها إظهار المعازف والملاهي. وقال سعيد: ثنا فرج بن فضالة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني رحمة للعالمين، وأمرني بمحق المعازف والمزامير، لا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا تعليمهن ولا التجارة فيهن، وثمنهن حرام».
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (15/118).
(3) «تفسير القرطبي» (10/290).
(4) البيت من بحر الكامل.
(5) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الاستئذان» باب «زنى الجوارح دون الفرج» حديث (6243)، ومسلم في كتاب «القدر» باب «قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره» حديث (2657)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(6) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (10/223) حديث (20796) بلفظ: «الغناء يُنبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع، والذِّكر يُنبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع»، وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (2/440) وقال: «رواه البيهقي من رواية ابن مسعود بإسناد ضعيف قال ابن طاهر وغيره: وأصح الأسانيد في ذلك وقفه على ابن مسعود».
(7) «إعاثة اللهفان» (1/251).
(8) أخرجه مسلم في كتاب «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» باب «التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل» حديث (2722) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله ﷺ يقول؛ كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْـجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَالْـهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَـهَا».
(9) أخرجه الثعلبي في «تفسيره» (7/310).