أنا طالب في كندا، وسؤالي هو: هل يجوز لي أكل اللحوم من دجاج وبقر وغيره في المطاعم العامة، وللعلم فإن أغلب الناس هنا لا يدينون بأي دين أي أنهم ليسوا أهل كتاب مع أنهم يقولون: إننا مسيحيون، ولكن لا يعملون أي شيء من دينهم مثل الذهاب إلى الكنيسة.
الأمر الآخر أنه يوجد هنا مطاعم فيها لحوم حلال، وأستطيع كذلك أن أستغني عن أكل اللحوم بأكل خضر أو مأكولات بحرية. ولكن يتعذر علي دائمًا أن آكل في تلك المطاعم، وكذلك أن أستمر في أكل خضر ومأكولات بحرية، وكذلك سوف تكون مُكَلِّفة ماليًّا قليلًا، ولقد بحثت في بنك الفتوى فوجدتُ فتاوى مختلفةً لأماكن مختلفة، فمثلا في أوربا لا يحل أكل لحوم البقر والدجاج، ولكن يحل أكل اللحوم الأخرى، لذلك أريد من فضيلتكم أن تفتوني تحديدًا عن البلد الذي أقيم فيه، وهو كندا. وجزاكم الله خير الجزاء، وجعله في ميزان حسناتكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا شك أن التذكية من الأمور الشرعية التي تخضع للكتاب والسنة، وفي مراعاة أحكامها التزام بشعائر الإسلام وعلاماته التي تميز المسلم من غيره، حيث قال النبي ﷺ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْـمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ الله وَرَسُولِهِ»(1).
ونوجز القول في هذه القضية في النقاط الآتية:
* إباحة ذبائح أهل الكتاب مما جاء به الكتاب والسنة وانعقد عليه إجماع الأمة؛ لقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ [المائدة: 5] ولاستفاضة ذلك في الأحاديث الصحيحة الصريحة القولية والعملية.
* تثبت صفة أهل الكتاب لهؤلاء بانتسابهم إلى اليهودية أو النصرانية، وإقرارهم المجمل بها كدين يدينون به، ولا ينتفي عنهم هذا الوصف إلا بزوال هذا الإقرار، وتحولهم إلى الوثنية أو الإلحاد، أما ما يدينون به من التثليث ونحوه فلا أثر له في انتفاء هذه الصفة عنهم،، فقد خوطبوا بها في القرآن رغم تلبُّسهم به.
* يشترط لإباحة ذبائحهم شرطان: التذكية، وألا يُهَلَّ بها لغير الله.
* إباحة ذبائح أهل الكتاب ولو لم تتحقق تذكيتها بما عهد في الشرع موضع نظر، بل هو خطأ بيِّنٌ، والاعتماد على ما نُقِل عن ابن العربي في ذلك ضعيفٌ جدًّا؛ إذ لا يُعرف لابن العربي في ذلك سلفٌ يُعوَّل عليه، وقد نقل عنه نفسه ما ينقُض هذه الفتوى بعد أن أوردها بقليل، ولذلك استشكلها كثير من شيوخ المالكية، واعتبروها شذوذًا، حتى قال البِسْطامي: «ليت قوله هذا لم يخرج للوجود، ولا سطر في كتب الإسلام».
* إذا شاع في بلد من هذه البلاد أن أهلها لا يُذكُّون الذكاة الشرعية المعهودة حتى صار هذا عندهم هو الأعم الأغلب، وجب الامتناع عن أكل ذبائحهم؛ لأن الأحكام تُبنى على الأغلب، والأصل في اللحوم والفروج المنع حتى يأتي ما يدل على الإباحة.
وتطبيق ذلك على الساحة الأمريكية والكندية، وفي ضوء ما توافر لنا من المعلومات يقودنا إلى التفصيل التالي:
– الأصل في القانون الأمريكي والكندي هو وجوب الذبح بما ينهر الدم، وذلك لأسباب صحية، وهم يجرمون قتل الحيوانات بغير هذا الطريق، وطريقة الذبح عندهم لا تخرج في الجملة عن الذبح أو النحر المعروف في شريعتنا.
– تتعرض جميع الحيوانات بما يضعف حركتها عن المقاومة، حتى يتمكن منها الذابح، وقد يكون ذلك وقذًا أو صعقًا بالكهرباء ونحوه.
– الأصل أن هذا الوقذ أو الذبح لا يميت الحيوان وإنما يضعف مقاومته، ولكن أثبتت التجارب العملية أن نسبةً مِن هذه الحيوانات تموت قبل أن تصل إليها يد الذابح، وما يكتشف موته منها يستبعد من الصلاحية للاستخدام الآدمي، ولكن منه ما لا يكتشف ويختلط بغيره وهنا يبدأ الاشتباه.
– أثبتت التجارب والإحصائيات- في ضوء المعلومات المتوافرة لدينا- أن النسبة التي تتعرض للموت قبل الذبح من الدجاج لا تكاد تذكر لأن «الفولت الكهربائي» الذي تتعرض له من الضعف بحيث لا يُميت منها شيئًا يذكر، اللهم إلا في أقل القليل، ومثله لا تُبنى عليه أحكام.
– لكن بقية الحيوانات كالأبقار والأغنام تموت منها نسبة كبيرة بسبب الوقذ أو الصعق، وهذه النسبة تتفاوت من مجزر إلى آخر، ولكنها قد تبلغ في بعض المجازر مبلغًا يشوش على حِل هذه الذبائح ويجعلها في موضع الريبة أو التحريم، ومن هنا نشأ الاشتباه والاختلاف في مشروعية هذه الذبائح في ضوء هذه المعلومات.
– ومَرَدُّ هذا الاشتباه إلى تعارض العمومات في هذا المقام: عموم إباحة ذبائح أهل الكتاب إلا ما ثبت عنه بعينه أنه من الميتة، وعموم القول بأن الأصل في اللحوم والفروج الحرمة حتى يأتي ما يدل على الإباحة، وبكلا القولين قال أهل العلم من القدامى ومن المعاصرين.
– والذي يظهر لي أن أكل هذه اللحوم يبقى في إطار الشبهة، ويصبح الورع تركه، لكنه لا يرقى بذلك إلى مستوى التحريم، ولا إلى الإنكار على المخالف فيه باجتهاد أو بتقليد سائغ. والله تعالى أعلى وأعلم.
– وإذا كان ذلك كذلك، وكان في مقدور المسلم أن يتجنب الوقوع في المتشابهات، وأن يحصل على اللحوم المستيقَنة الحِل من أسواق المسلمين، فما الذي يحمله على التعامل مع غيرها من بقية اللحوم؟ ولماذا لا يستصحب في موقفه هذا نية الورع والخروج من الخلاف من ناحية، ودعم المشروعات الإسلامية خارج ديار الإسلام وإقدارها على النجاح والمنافسة من ناحية أخرى، فيُؤتيه الله أجره مرتين، ويَمُنُّ عليه من رحمته بكفلين.
– ثم تبقى بعد هذا نصيحة يجب أن تقرع آذان التجار المسلمين في هذه المجتمعات: إن الاقتصاد في الربح، والرفق بالمسلمين في أرض الغربة، والحرص على استجلاب محبتهم للمشروعات الإسلامية، من ميادين الجهاد والعمل الصالح في هذه المجتمعات، وإنه لا يحل لهم أن يستثمروا حرص المسلمين على دينهم ومحبتهم لاتباع نبيهم، ويفرضوا عليهم من الأسعار ما لا تطيب به نفوسهم، فإن هذا من الجشع الذي لا يليق برجل يؤمن بالله واليوم الآخر. والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) أخرجه البخاري.