صليت وراء أحد الإخوة صلاة الفجر من عدة أيام وأطال السكوت بعد أن قرأ الفاتحة وبعضًا من سورة أخرى، ولما سألناه عن سبب السكوت قال بأنه كان يقوم بدعاء القنوت، وقال: إن ذلك طبقًا لمذهب الإمام مالك، وأضاف أحدُ الإخوة أنه في مذهب الإمام أبي حنيفة لا يوجد دعاء قنوت على الإطلاق، وعلى حد علمي أن دعاء القنوت يكون بعد الركوع، ويكون جهرًا، أرجو توضيح ما هو ثابت في سنة نبينا الكريم محمد صلى على عليه وسلم بخصوص دعاء القنوت. وجزاكم الله خيرًا .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد ذهب بعضُ أهل العلم أن محل القنوت قبل الركوع، وهو مذهب الحنفية(1)، واستدلوا بحديث رواه النَّسائي وابن ماجه وغيرُهما بسند حسن من حديث أُبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُوتر فيقنت قبل الركوع(2).
وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قنت في آخر الوتر قبل الركوع. ذكر الحافظ ابن حجر أن في إسناده عمرو بن شمر، وهو واهٍ(3).
والجمهور(4) على أن محل القنوت في الوتر بعد رفع الرأس من الركوع؛ لما رواه البُخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع(5).
وعن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: «قد كان القنوت». فقلت: قبل الركوع؟ فقال: كذبت، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا(6).
ورواية أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع(7).
وعليه فلو كبر ورفع يديه ثم قنت قبل الركوع جاز، لما جاء في حديث النَّسائي وابن ماجه السابق، والمستحب أن يكونَ القنوت بعد الركوع وهو الذي عليه جمهور العلماء، فإن أكثر الصَّحابة والتابعين وفقهاء الحديث كأحمد وغيره يختارون القنوت بعد الركوع، وأيًّا كان الأمر فإن المسألة في محل الاجتهاد، ولا إنكار في المسائل الاجتهادية.
قال شيخ الإسلام: «وأما القنوت فالناس فيه طرفان ووسط، منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع، ومنهم من لا يراه إلا بعده. وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلَا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما؛ وإن اختاروا القنوت بعده لأنه أكثر وأقيس»(8).
ويرفع يديه إلى صدره، ولا يبالغ في ذلك؛ لأن هذا الدعاء ليس دعاء ابتهال يبالغ فيه الإنسان بالرفع، بل دعاء رغبة، ويبسط يديه وبطونهما إلى السماء.
وظاهر كلام أهل العلم أنه يضم اليدين بعضهما إلى بعض كحال المستجدي الذي يطلب من غيره أن يعطيه شيئًا.
ومما يجدر التنبيه عليه أنه في مثل هذه الأيام حيث الاجتياح الظالم لأهلينا من قبل المحتلين الطغاة يشرع الدعاء لهم في الصلوات الخمس لعلَّ الله أن يمن عليهم برحمته، وأن يرينا فيمن اعتدى عليهم عجائب قدرته. ونسأل الله القبول. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــ
(1) جاء في «المبسوط» من كتب الحنفية (1/164-165): «(والثالث) أنه يقنت قبل الركوع عندنا لما روينا من الآثار ولأن القنوت في معنى القراءة فإن قوله اللهم إنا نستعينك مكتوب في مصحف أبي وابن مسعود في سورتين فالقراءة قبل الركوع فكذلك القنوت».
(2) أخرجه النسائي في كتاب «قيام الليل وتطوع النهار» باب «ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أبي بن كعب في الوتر» حديث (1699)، وابن ماجه في كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب «ما جاء في القنوت قبل الركوع وبعده» حديث (1182)، وذكره الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (970).
(3) أخرجه الدارقطني في «سننه» (2/32)، وذكره ابن حجر في «تلخيص الحبير» (2/18) وقال: «في إسناده عمرو بن شمر وهو متروك».
(4) جاء في «المغني» من كتب الحنابلة (2/112): «فصل: ويقنت بعد الركوع. نص عليه أحمد. وروي نحو ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي قلابة، وأبي المتوكل، وأيوب السختياني. وبه قال الشافعي. وروي عن أحمد أنه قال: أنا أذهب إلى أنه بعد الركوع، فإن قنت قبله، فلا بأس».
(5) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «القنوت قبل الركوع وبعده» حديث (1002)، ومسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة» حديث (677).
(6) أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «القنوت قبل الركوع وبعده» حديث (1002).
(7) أخرجه البخاري في كتاب «تفسير القرآن» باب «﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾» حديث (4560).
(8) «مجموع الفتاوى» (23/100).