مسيحيٌّ مصريٌّ دعوتُه إلى الإسلام فسألني عن هذه الأسئلة:
﴿مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ [الأحزاب: 50]؟ يقول: هذا ظلم! كيف يأخذون الجواري بدون ذنبٍ ويجامعونهن.
كيف يتزوَّج رسولُ الله من عائشة وهي بنت تسع سنين؟
يقول: كلُّ ابن آدم نخسه الشَّيطان باستثناء عيسى ، بمعنى أنه أفضلُ من الرسول ، ويقول بأن رسولَ الله له ذنوبٌ، ويستدلُّ بقوله تعالى:﴿ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: 2]، وأن عيسى ليس عليه ذنب، إذًا هو أفضل من محمد ؟
وفي انتظار جوابك على هذه الأسئلة حتى تكون حجة عليه، أسال الله أن يحفظك ويزيدك علمًا. والسَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فجزاك اللهُ خيرًا على اشتغالك بالدعوة واهتمامك بشئونها، وإليك جوابَ ما سألتَ عنه بشيءٍ من التفصيل، ونسأل اللهَ لنا ولك التَّوفيق.
أوَّلًا: حول مسألة الرقيق: الإسلام لم يستأنف نظام الرِّق، وإنما ضبطه بقواعد العدل والفضل، إن العبوديةَ قديمةٌ قِدَم البشرية، ومن سنن الله تعالى في خَلْقه أن جعل منهم القويَّ والضعيف والغنيَّ والفقير والغالب والمغلوب، ابتلاءً للأعلى وللأدنى على حدٍّ سواء، فجاء اللهُ تعالى بالإسلام ليُنظم العلاقة بين هذه الفئات، وليوازن بين تلك القوى، وليعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
ومن العلاقات التي نظمها الإسلام وضبطها ووضع لها معايير متوازنة هي العلاقة بين السيد والعبد، لقد جاء الإسلام والرِّقُّ شائعٌ في أمم الأرض منذ أزمان قديمة، ولا فرق عند تلك الأمم بين أن يؤخذ الرقيق في حربٍ مشروعة وبين أن يؤخذ في عدوان ظالم أو احتيال على أخذ الحرِّ غدرًا وخيانةً وأكل ثمنه، فضيَّق الإسلامُ هذا البابَ، وشدَّد في حرمة بيع الحرِّ واسترقاقه، وحَصَر دائرة الرِّق فيما أُخذ من طريق الجهاد المشروع، ثم نظم الإسلامُ هذه العلاقة بين العبد والسيد، فأوصى اللهُ تعالى السادة بالعبيد آكدَ وصية أن يُحسنوا إليهم كما يُحسنون إلى آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم، وأن يُطعموهم مما يأكلون، ويُلبسوهم مما يلبسون، وألا يُكلِّفوهم من العمل ما لا يُطيقون؛ قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [النساء: 36].
وفي «صحيح مسلم» وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»(1).
وفي «المسند» وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ سَيِّئُ الْـمِلْكَةِ». فقال رجل: يا رسول الله، أليس أخبرتَنا أن هذه الأُمَّةَ أكثرُ الأمم مملوكين وأيتامًا؟ قال: «بَلَى، فَأَكْرِمُوهُمْ كَرَامَةَ أَوْلَادِكُمْ، وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ»(2).
وفي «صحيح مسلم» عن أبي مسعود البدريِّ قال: كنتُ أضرب غلامًا لي بسوطٍ، فسمعت صوتًا من خلفي: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». فلم أفهمِ الصوتَ من الغضب. قال: فلما دنا مني إذا هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». قال: فألقيتُ السوطَ من يدي، فقال: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ». قال: فقلتُ: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا(3).
وفي «صحيح مسلم» عن عائشة ل قالت: ما ضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده ولا امرأةً ولا خادمًا إلا أن يُجاهد في سبيل الله، وما نِيل منه شيءٌ قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهكَ شيءٌ من محارم الله فينتقم لله عز وجل (4).
وعن جابرٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ: رِفْقٌ بِالضَّعِيفِ، وَشَفَقَةٌ عَلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِحْسَانٌ إِلَى الْـمَمْلُوكِ»(5).
بل إن مِن آخر ما أوصى به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ ومِلْك اليمين (العبيد)؛ ففي «المسند» و«سنن ابن ماجه» وغيرهما عن أنسٍ قال: كانت عامةُ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حَضَره الموتُ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ». حتى جعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُغرغر بها صدره وما يكاد يُفيض بها لسانُه(6).
وفي المقابل أوصى العبدَ بطاعة سيِّده والقيام بحقِّه، ووَعَده على ذلك أجرًا مضاعفًا، كما في الصَّحيحين عن أبي موسى أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أُجُورَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ فَيُعَلِّمُهَا وَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ يَعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- الَّذِي كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم – فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي حَقَّ الله تَعَالَى وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ»»(7).
فتح الأبواب للعتق والترغيب فيه: وإضافة إلى ما قلناه من أن الإسلامَ ليس هو الذي جاء بالرِّق، وأنه نظَّم العلاقة بين السادة والعبيد، فإنه قد فتح الباب على مِصْرَاعيه للعتق ورغَّب فيه، ففي الصَّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ»(8).
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33].
وفي «المسند» عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ الله أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتِبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»(9).
وقد جعل اللهُ جزءًا من الزكاة التي هي ركنٌ من أركان الإسلام مُخصَّصًا لهذا الغرض، وقد جعل اللهُ عتقَ الرقاب كفارةً لأمورٍ تحدث كثيرًا، فكفارةُ قتلِ الخطأ عتقُ رقبة، وكفارة الظِّهار عتق رقبة، وكفارة الأيمان عتق رقبة، وكفارة من أفطر في رمضان متعمِّدًا عتق رقبة.
وبهذا تعلم أن الإسلامَ يتشوَّف إلى الحرية ويتطلَّع إليها، وتشريعاته تتضمَّن ذلك وتُعلِّم الطَّرِيقةَ التي يُريد الإسلامُ أن يقضي بها على العبودية بدون قسر ولا قهر ولا تداعيات وآثار سلبية، ونحن على يقين بأنه لو ظلَّ سلطانُ الإسلام الصَّحيح قائمًا في الأرض لاضمحلَّت هذه الظَّاهِرة أو كادت، ولكان ما بقي من الرقيق لا يفرق بين بقائه رقيقًا أو عتقه، وذلك لما يُوليه الإسلام له من عناية ويَحُضُّ على حسن معاملته.
وفي ضوء ما تقدَّم فإن المقصود بوطء مِلْك اليمين هو وطء الرَّجُل لأمته التي يملكها ملكًا صحيحًا، وهي رقيقةٌ عنده يتصرَّف فيها بالبيع والهبة وغيرهما، في ظلِّ حرمات مصونة وحقوق مكفولة، وليس المقصودُ به وطءَ الأجنبيَّة الذي هو زنًى.
حول شبهة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة وهي بنت تسع سنين: إن مَرَدَّ هذه الشُّبْهة إلى عدم إدراك الفروق الكبيرة بين البيئات والحضارات الـمختلفة، والتي يفصل بينها مئات السنين، وتطبيق أعراف وعادات وثقافات الواقع المعاصر على عصور غابرة خلت مع إهدار هذه الفروق الحاصلة بفعل تغيُّر البيئات والأزمنة والحضارات:
• لقد استقبلت مكةُ المكرمة نبأَ المصاهرة بين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر بما تستقبل سائر الأمور المألوفة والمتوقعة، ولم يَدُر بخلد واحدٍ من خصومه الألداء أن يتَّخذ من زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة مطعنًا أو منفذًا للتجريح والاتِّهام، وهم الذين لم يتركوا سبيلًا للطعن عليه إلا سلكوه ولو كان بـهتانًا وزورًا.
• لم يكن الرسولُ صلى الله عليه وسلم أولَ الخاطبين لأم المؤمنين عائشة، بل كانت مخطوبةً لجبير بن المطعم بن عدي، بحيث لم يستطع أبو بكرٍ أن يُعطي كلمته لخولة بنت حكيم حين جاءت تخطبها لرسول الله عز وجل حتى مضى فتحلَّل من وعده للمطعم بن عدي.
• لم تكن خطبته صلى الله عليه وسلم لها بمبادرةٍ شخصية منه، وإنما كانت باقتراح لخولة بنت الحكيم على الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لتوطيد الصلة مع أحبِّ أصحابه وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وحينما اقترحتها كانت تعتقد أنها تصلح للزواج وسدِّ الفراغ بعد موت السيدة خديجة ل.
• لم يكن زواجُ الرَّجُل من فتاة صغيرة بدعًا في ذلك العصر، ولا في العصور التَّالية له، خاصة في البلاد التي تقوم على النِّظام القَبَلِيِّ، ولا أدلُّ على ذلك من زواج عبد المطلب الشَّيخ من هالة الزهرية بنت عم آمنة في اليوم الذي تزوَّج فيه عبد الله أصغر أبنائه، من تِرب هالة آمنة بنت وهب، وتزوَّج عمر بن الخطاب فيما بعد من بنت علي بن أبي طالب وهو في سِنٍّ فوق سنِّ أبيها، وعرض عمر على أبي بكر أن يتزوَّج ابنته الشابة حفصة وبينهما من فارق السِّنِّ مثل الذي بين الرسول وعائشة. ومن التجنِّي في الأحكام أن يُوزَن الحدثُ منفصلًا عن زمانه ومكانه وظروف بيئته.
• أن المُشنِّعين على هذه القضيَّة من غير المسلمين لا يَرَوْن غضاضةً أن تكون مريم العذراء مخطوبةً ليوسف النجار وهي ابنة اثني عشر عامًا وهو يزيد عن التسعين، أي أن الفارق بينهما كان أكثر من ثمانٍ وسبعين سنة، كما ذكرت الموسوعة الكاثوليكية.
• بل إن العجب لا ينقضي ممن يُنكرون زواجه صلى الله عليه وسلم بأُمِّنَّا عائشة في الوقت الذي يؤمنون فيه بأن الأنبياء ارتكبوا الموبقات والفواحش من زنى المحارم؛ كادِّعائهم زنى لوط عليه السلام بابنتيه، وزنى داود بزوجة جنديٍّ بجيشه، بل يأمر قائد الجيش بالانكشاف عنه حال الحرب ليقتله الأعداء، ولا يجدون غضاضةً في أن يُوصف سليمان عليه السلام بالكفر، وأنه عَبَد الأوثان إرضاءً لزوجاته الوثنيات.
• لقد اختار الله عز وجل أُمَّنَّا عائشة لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم في تلك السِّنِّ التي يكون فيه الإنسان أفرغ بالًا وأشدَّ استعدادًا لتلقِّي العلم، لتنقل إلى الأُمَّة فيما بعد جزءًا كبيرًا من ميراث النبوة مما اطَّلعت عليه بحكم مخالطتها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ومشاهدتِها أخصَّ شئونه عن كثب، فزوجاته صلى الله عليه وسلم كُنَّ طاعنات في السن، ولا يخفى أن التعلم في الصِّغَر كالنقش على الحجر، وثمة كثير من الأمور الدينية الخاصة بالنِّساء أو بعلاقة الرَّجُل بزوجته وأهل بيته مما يحتاج لحافظة واعية تستطيع أن تبلِّغ هذا العلم لغيرها، وهذا ما حدث منها ل، ويظهر ذلك جليًّا في قول الإمام الزُّهري: ««لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النِّساء لكان علم عائشة أفضل»»(10). ويقول عطاء بن أبي رَبَاح: «كانت عائشةُ أفقه النَّاس وأعلم النَّاس وأحسن النَّاس رأيًا في العامَّة»(11).
• من المُقرَّر طبيًّا أن البلوغ في المناطق الحارة يكون أسرع منه في المناطق الأقل حرارة، وقد يصل سِنُّ البلوغ عند الفتيات في المناطق الحارة إلى ثمان أو تسع سنوات، وقد ذَكَر بعضُ أهل الاختصاص أن الفتاة البيضاء في أمريكا قد تبدأ في البلوغ عند السابعة أو الثامنة، والفتاة ذات الأصل الإفريقي عند السَّادسة؛ فينبغي اعتبارُ مثل هذه الفروق عند النَّظَر في مثل هذه المسائل.
حول استثناء عيسى وأمِّه من نَخْس الشَّيطان لهما عند الولادة، ودعوى تفضيله بذلك على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم :
• إن هذا النَّخْس من الشَّيطان للولد حين يستهلُّ في لحظات الولادة إنما يكون إشعارًا منه بالتمكُّن والتسليط، وهذا يكون في نفسه فقط، ومن باب التخييل والتمنِّي أن هذا المولود سيكون من أتباعه، ولقد حفظ اللهُ تعالى مريم وابنَها من نخسته ببركة إجابة دعوة أمِّها حين قالت: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران: 36]، ولا يعني هذا النخس أن الشَّيطان يتمكَّن من ابن آدم، وأنه بسبب هذه النخسة أصبح من حزبه، بل غاية الأمر أن الشَّيطان يطمع في إغواء المولود فكأنه يقول: هذا ممن سيكون في حزبي وسأُغويه.
ومن النَّاس بعد ذلك من صدَّق عليهم إبليسُ ظنَّه، ومنهم من عصمهم الله عز وجل ، وفي مقدمة مَن عَصَمهم الأنبياءُ والمرسلون، وقد قال تعالى في عباده المخلصين عامة: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42]، فلا يطعن هذا النخس في عصمة الأنبياء، ولا مدخل لهذا الأمر في ذلك من الأساس، ونظير ذلك أن اللهَ قد جعل لكلِّ واحدٍ من بني آدم قرينًا من الجنِّ يُزيِّن له الشرَّ، وقد أعان اللهُ نبيَّنا على قرينه فأسلم فلا يأمره إلا بالخير؛ فقد أخرج أحمد في «المسند» وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَمَعَهُ قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ». قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وَأَنَا، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ»(12).
• واستثناء عيسى وأمه من هذا النخس لا يعني تفضيله بذلك على سائر الأنبياء والمرسلين، فلقد جعل اللهُ لكلِّ نبيٍّ خصوصية، وهي لا تعني التفضيل العام من كلِّ وجه، لقد خلق اللهُ آدم بيده ونفخ فيه من رُوحه وأسجد له ملائكته(13)، ولقد وهب اللهُ لسليمان مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده(14)، ولا يعني هذا تفضيلَهما على سائر الأنبياء والمرسلين، ولا زَعَم ذلك حتى من ساق هذه الدعوى، فما كان جوابًا له عن ذلك كان جوابًا لنا عن تلك.
• ومن ناحيةٍ أخرى فإن الفضلَ الذي يُعدُّ كمالًا تامًّا للإنسان هو ما كـان بسعيه واجتهاده، ومن هنا كان فضل الخليلين إبراهيم ومحمدٍ عليهما وعلى سائر الأنبياء الصَّلاة والسَّلام، وأما طعن الشَّيطان بيده فليس من شأنه أن يُثاب العبد على سلامته منه ولا أن يعاقب على وقوعه له، وعلى التسليم بأن هذه فضيلةٌ لعيسى عليه السلام فنحن جميعًا نُقِرُّ بأن المفضولَ قد يكون فيه من الخصائص والمزايا ما ليس للفاضل، ولا يُؤثِّر ذلك في أفضليته.
• ومن ناحية ثالثة فقد قال بعضُ أهل العِلْمِ منهم الأَلُوسيُّ في «تفسيره»: «إن المُتكلِّم غير داخل في عموم كلامه؛ فيكون نبيُّنا عليه الصَّلاة والسَّلام ممن لم يمسَّه الشَّيطان أيضًا». وقد اختار القاضي عياض- كما نقله عنه النوويُّ- أن جميعَ الأنبياء يتشاركون في هذه الخصيصة.
أما ما ذكرت مما نُسب إلى نبينا صلى الله عليه وسلم من مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإن ذلك إشارة إلى الصغائر التي لا تقدح في المروءات، ولا تتنافى مع العصمة، ولا تنفك عنها جبلة بشرية، والتي لم ينفك عنها نبي ولا ولي ولا صديق!
• هذا ولسنا في صدد المقارنة بين عيسى ومحمد عليهما السَّلام؛ فقد نُهينا عن المفاضلة بين الأنبياء، ولاسيَّما ما أدَّى منها إلى تنقُّص الطرف الآخر، فدينُنا المُطهَّر يحفظ كرامة الأنبياء والرسل، ويُعلي شأنهم جميعًا ويجعل الإيمانَ بهم جميعًا ركنًا من أركان الإيمان، ولا يكون مسلمًا من جحد نبوةَ أحدٍ منهم، وليس في شرعنا المطهَّر إلا الثَّناء على الأنبياء والمرسلين وذكر دعائهم وخشيتهم لله ودعوتهم لأقوامهم وصبرهم على إيذائهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يُسيء لأحدٍ منهم، وقد ثبت عندنا في أوثق كتب السنة قوله صلى الله عليه وسلم : «أَنَا أَوْلَى النَّاس بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»(15).
ومعنى «أولى النَّاس بعيسى»: أي أخصهم به وأقربهم إليه.
فأين هذا من مسلك التنقُّص الذي يسلكه غير المسلمين مع خاتم النَّبيين والمرسلين!
أرجو أن تكونَ في هذه الكلمات ما يَرُدُّ صاحبَك إلى الجادَّة، ومن سُوَيْداء قلوبنا نتمنَّى له الهداية والتَّوفيق، وندعو الله أن يشرح صدره للإسلام إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم في كتاب «الأيمان» باب «باب التغليظ على من قذف مملوكه بالزنى» حديث (1661).
(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/12) حديث (75)، وأبو يعلى في «مسنده» (1/94) حديث (94)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/236) وقال: «رواه أحمد وأبو يعلي وفيه فرقد السبخي وهو ضعيف».
(3) أخرجه مسلم في كتاب «الأيمان» باب «صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده» حديث (1659).
(4) أخرجه مسلم في كتاب «الفضائل» باب «مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته» حديث (2328).
(5) أخرجه الترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» حديث (2494)، وقال: «حديث حسن».
(6) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/117) حديث (12190)، وابن ماجه في كتاب «الوصايا» باب «هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم » حديث (2697)، وذكره الكناني في «مصباح الزجاجة» (3/139) وقال: «هذا إسناد حسن».
(7) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الجهاد والسير» باب «فضل من أسلم من أهل الكتاب» حديث (3011)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم » حديث (154).
(8) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «كفارات الأيمان» باب «قول الله تعالى: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ » حديث (6715)، ومسلم في كتاب «العتق» باب «فضل العتق» حديث (1509).
(9) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/478) حديث (16029)، والحاكم في «مستدركه» (2/236) حديث (2860)، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/241) وقال: «رواه أحمد وفيه عبيد الله بن سهل بن حنيف ولم أعرفه وبقية رجاله حديثهم حسن».
(10) أخرجه الطبراني في «الكبير» (23/184) حديث (299)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/243) وقال: «رواه الطبراني مرسلًا ورجاله ثقات».
(11) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (4/15) حديث (6747).
(12) سبق تخريجه 2814.
(13) قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾} [ص:71- 73].
(14) قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾} [ص: 34-39].
(15) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «قول الله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ » حديث (3443)، ومسلم في كتاب «الفضائل» باب «فضائل عيسى عليه السلام » حديث (2365)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .