أنا شاب مسلمٌ غير عربيٍّ أعيش في دولة عربيَّة، كنت كغيري من الشباب لا هدف لي ولا غاية ضائعًا، وُلدت لأبٍ علمانيٍّ والحمد لله أمي مسلمة، كبرت في البيت كسائر أشقائي وشقيقاتي بعيدًا عن شرائع الدِّين.
في السنة الجامعية الثَّانية منَّ اللهُ عليَّ بهدايتي للإسلام، المشكلات التي أرجو المساعدة فيها:
1- لا أجلس مع والدي كثيرًا؛ لأنه يتكلَّم بكلامٍ لا يُطيق المسلمُ سماعَه، ولا أعتقد أن المناقشة تُجدي معه نفعًا لأنه اعتنق الشيوعية في السَّابق ولا تزال أفكاره من معتقداتهم الفاسدة، وهو يعمل مع جماعة من هذه الشاكلة.
2- مجتمعي الذي أنا فيه على جهل كبيرٍ ولا يقتنع البتَّة.
3- عندما أقوم بعملٍ من الدِّين- أي سنة- يُهاجمني الجميعُ، كلُّ أفراد البيت.
4- لفترة طويلة لم يعرف أبي أنني أُصلِّي، وعندما عرف هدَّد أمي بالطَّلاق إذا ما استمررت في الصَّلاة؛ لأنه علم أنني كنت أذهب للجامع.
5- أنا الآن حاليًّا في المرحلة الأخيرة من الجامعة وأدرس أحد فروع العلوم، والفرع الذي أدرسه لا أُحِبُّه ولست أفهم منه شيئًا، وأنا خائف من الحديث: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ»(1)، وفي النِّهاية سأعمل مُدرِّسًا، وإذا لم يكن عندي علم فكيف سأدرس للطلاب؟!
6- في البلد الذي أعيش فيه إذا ما داوم الشَّابُّ فترةً على الذهاب إلى المسجد فإنهم يعتقلونه في سجنٍ سياسيٍّ- ليس مدنيًّا- ويفعلون به ما لا يخطر ببالِ بشرٍ من ضرب وتجويع حتى اللواط قد يُمارسونه، والمرء قد يتحمَّل الضرب والجوع لكن لا يتحمل إهانة الكرامة، وفي حال أردتُ أن أُصلِّي جماعةً ماذا أفعل؟
7- لديَّ كثيرٌ من الأصدقاء اعتزلتُ كثيرًا منهم لأن معظمَهم صارت كلمةُ الكفر والشرك على لسان كلِّ منهم في كلِّ كلام يتكلَّمون فيه تقريبًا، هل أنا على صواب؟
8- في البيت شقيقاتي يلبسن ثيابًا- والعياذ بالله- لا توصف، وقلبي مُكره لذلك، والنُّصح لا يُجدي، ماذا أفعل؟ حتى إنه لديهن أصدقاء شباب والوالد والإخوة لا يُنكرون ذلك.
9- في كثيرٍ من المناقشات التي أخوضها بنيَّة سليمة ينقلب الطَّرَف الآخر إلى قول كلمات لا يحتملها المسلم.
10- في السنة الجامعية القادمة إن شاء الله قرَّرت أن أستأجر غرفةً وحدي ابتعادًا عن الفتن؛ لأنني في السنوات الماضية كانت نفسي تضعف في كثيرٍ من الأحيان، هل أنا على صواب؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فنحمد الله جلَّ وعلا على هدايته لك وأنت ترى مِن حولك آلافَ الضائعين، وتلك نعمةٌ أرجو ألا تحقرها، فإن نعمةَ الهداية لا تعدلها نعمة، وصَدَق القائل:
|
والقائل:
|
أمَّا والدك فقد تعبَّدك ربُّك بمصاحبته في الدُّنْيا معروفًا في جميع الأحوال، ولكن ليس من البرِّ به ولا من مصاحبته بالمعروف أن تُطيعه في معصية الله؛ لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق(3).
وأما إخوتك وأخواتك فإذا أبرأتَ ذمَّتَك بالنُّصح لهم فلا يَضُرُّك غوايةُ من غوى منهم ولا فسوقه عن أمر الله عز وجل ؛ فقد قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾}[المائدة: 105].
فانصح برفقٍ وادعُ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة(4)، واحذر من الغلظة التي تفتنهم وتصدُّهم عن السَّبيل(5).
والأجواء التي تعيشها يا بني أجواءٌ مواتية لنموِّ بعض الأفكار البدعية، مثل الغلو في التكفير ونحوه، فاحذر على نفسك من هذه المفاهيم، وتخيَّر من الأصحاب من لا تزلُّ معه قدمك ولا تضطرب معه مفاهيمك.
ويبدو أنك في هذه المرحلة لستَ مُهيَّئًا للدخول في مناقشات دينيَّة ربما لقلة رصيدك من العلم أو لضيق صدرك وسرعة توتُّرك نظرًا لما يُحيط بك من ظروفٍ قاسية؛ فننصح بالإقلال من ذلك قدر الإمكان إلى أن يجعلَ اللهُ لك فرجًا ومخرجًا وتتمكَّن من طلب العلم على وجهه وعلى يد أهله، فتصبح ساعتها مهيئًا لمثل هذه المناقشات.
واجتهد يا بني في إنهاء السنة الجامعية الباقية ثم التمس لك مكانًا لعبادة الله عز وجل بعيدًا عن هذه الأجواء، وتجمَّل يا بني بالصَّبْر، واعلم أن الصَّبْر بالتصبُّر، وأن من يتصبَّر يُصبِّره الله(6)، وأن أفضلَ العبادة انتظارُ الفرج، وكن على يقينٍ أن فرج الله قريب، وأن الفجر قادم لا محالة، وتذكَّر قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾[الفرقان: 20].
أما بالنسبة لما ذكرت من تعرُّض من يترددون على المساجد بانتظام إلى السجن وما يقع فيه من بلاء وفتنة شديدة- فلعل السجن والاعتقال يا بني لا يكون لمجرد التردُّد على المساجد للصلاة، بل لِـما قد يصحب ذلك من أنشطة دعوية لا تُقِرِّها سلطات هذا البلد، وعلى كل حال حافظ على صلواتك بالمسجد ما استطعت، وتجنب من الأنشطة الأخرى ما يعرضك لهذه الفتنة، إلا إذا تيقنت أو غلب على ظنك أنك ستُعتقل وتفتن لمجرد التردد على المساجد للصلاة، وأحسب أن هذا الاحتمال بعيد، فساعتها يرخص لك في ترك صلاة الجماعة والصلاة في بيتك، إلى أن تنقشع هذه الغاشية، فإن الخوف من الأعذار التي تبيح ترك الجماعات!
وأسأل اللهَ أن يُلهمك رشدك، وأن يحملك في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبة. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» باب «ما جاء في شأن الحساب والقصاص» حديث (2416)، والدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» ص10 حديث (7)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/286) حديث (1784)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ». وقال الدينوري: «إسناده ضعيف وهو حسن بشواهده»، وذكره الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» حديث (128) وقال: «حسن لغيره».
(2) البيت لأبي الفتح البستي، من شعراء القرن الخامس الهجري وكتاب الدولة السامانية في خراسان. وهو من بحر البسيط، من قصيدة مطلعها:
زيادَةُ المَرء في دُنياهُ نقصانُ وربْحُهُ غَيرَ محض الخَير خُسرانُ
(3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «أخبار الآحاد» باب «ما جاء في إجازة خبر الواحد» حديث (7257)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب طاعة الأمراء في غير معصية» حديث (1840) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ: «لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف».
(4) قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[النحل: 125].
(5) قد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
(6) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الزكاة» باب «الاستعفاف عن المسألة» حديث (1469)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «فضل التعفف والصبر» حديث (1053)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده فقال: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ».