العمل القضائي خارج ديار الإسلام

سؤالي: هل يجوز تولي القضاء في ظل غياب تطبيق الشريعة؟
حكم تولي المحاماة: حكم العمل بما يُعرف بجهاز الاستخبارات بنية تقليل الشر؛ خاصة وإننا في الجزائر لما سيطر التيار الاستئصالي على تلك المواقع وتحريف ما يسمون بالسلفية وبالتالي هدم المناصب بحجة عدم تحكيم شرع الله ورغم أنهم يقولون: يجب طاعة ولي الأمر. هل كل متهم لا يجوز الدفاع عنه؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
من كتاب المؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا المنعقد في كوبنهاجن/ الدنمارك، في الفترة (4-7 جمادى الأولى 1425 هـ = 22-25 يونيو 2004):
العمل القضائي خارج ديار الإسلام؛ ما يحل منه وما يحرم:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا المنعقد في دورة مؤتمره الثاني بمدينة كوبنهاجن بدولة الدنمارك من (4-7 من شهر جمادى الأولى عام 1425هـ، الموافق 22-25 من شهر يونيو عام 2004م)- بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة من السادة أعضاء المجمع وخبرائه بخصوص موضوع «العمل القضائي خارج ديار الإسلام: ما يحل منه وما يحرم»، والمناقشات المستفيضة التي دارت حوله.
قرر المجمع ما يلي:
أولًا: الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع وحده، والحكم بغير ما أنزل الله من المحرمات القطعية في الشريعة، وهو سبيل إلى الكفر أو الظلم أو الفسق بلا نزاع.
ثانيًا: الأصل هو وجوب التحاكم إلى الشرع المطهر داخل ديار الإسلام وخارجها، فإن أحكام الشريعة تخاطب المسلم حيثما كان، وتحكيم الشريعة عند القدرة على ذلك أحد معاقد التفرقة بين الإيمان والنفاق.
ثالثًا: إذا لم يكن سبيل إلى التحكيم الملزم للشريعة، على مستوى الدول والحكومات فإن هذا لا يسقط وجوب تطبيقها على مستوى الأفراد والتجمعات، فإن الميسور لا يسقط بالمعسور، وفي التحكيم والصلح ونحوه بدائل عن اللجوء إلى التحاكم إلى القضاء الوضعي القائم على خلاف الشريعة.
رابعًا: يرخص في اللجوء إلى القضاء الوضعي عندما يتعين سبيلًا لاستخلاص حق أو دفع مظلمةٍ في بلد لا تحكمه الشريعة لانعدام البديل الشرعي القادر على ذلك، سواء أكان ذلك داخل بلاد الإسلام أم كان خارجها، ويقيد ذلك بما يلي:
– تعذر استخلاص الحقوق أو دفع المظالم عن طريق القضاء أو التحكيم الشرعي، لغيابه أو العجز عن تنفيذ أحكامه.
– اللجوء إلى بعض حملة الشريعة لتحديد الحكم الشرعي الواجب التطبيق في موضوع النازلة، والاقتصار على المطالبة به والسعي في تنفيذه؛ لأن ما زاد على ذلك ابتداء أو انتهاء خروج على الحق وحكم بغير ما أنزل الله.
– كراهية القلب للتحاكم إلى القضاء الوضعي، وبقاء هذا الترخص في دائرة الضرورة والاستثناء.
خامسًا: يشرع العمل بالمحاماة للمطالبة بحق أو دفع مظلمة، سواء أكان ذلك أمام القضاء الشرعي أم أمام القضاء الوضعي، وسواء أكان ذلك في بلاد الإسلام أم كان خارجها، وكل ما جاز فيه التحاكم بالأصالة جاز فيه التحاكم بالوكالة، ولا حرج في توكيل المسلم لغير المسلم في الخصومة، سواء أكان الخصم مسلمًا أم غير مسلم.
ويشترط لجواز العمل بالمحاماة ما يلي:
– عدالة القضية التي يباشرها بحيث يكون وكيلًا عن المظلوم في رفع مظلمته، وليس معينًا للظالم على ظلمه.
– شرعية مطالبه التي يرفعها إلى القضاء ويطالب بها لموكله.
سادسًا: يحرم تقلد ولاية القضاء في ظل سلطة لا تؤمن بالشريعة، ولا تدين لحكمها بالطاعة والانقياد، إلا إذا تعين ذلك سبيلًا لدفع ضرر عظيم يتهدد جماعة المسلمين، ويرجع في تقدير هذا الضرر إلى أهل الفتوى، ويشترط للترخص في هذه الحالة ما يلي:
– العلم بأحكام الشريعة الإسلامية، والقضاء بأحكامها ما أمكنه ذلك.
– كون الغاية من هذا الترخص تخفيف ما يمكن تخفيفه من الشرِّ عن المسلمين وتكثير ما يستطيع تكثيره من الخير لهم.
– اختيار أقرب تخصصات القضاء لأحكام الشريعة الإسلامية ما أمكن.
– كراهية القلب لتحكيم القانون الوضعي، وبقاء هذا الترخص في دائرة الضرورة والاستثناء.
سابعًا: لا حرج في دراسة القوانين الوضعية المخالفة للشريعة أو تولى تدريسها للتعرف على حقيقتها وبيان فضل أحكام الشريعة عليها، أو للتوصل بدراستها إلى العمل بالمحاماة لنصرة المظلومين واستخلاص حقوقهم، بشرط أن يكون عنده من العلم بالشريعة ما يمنعه من التعاون على الإثم والعدوان.
ثامنًا: تولي الصالحين الأكفاء من المسلمين بعض الولايات العامة خارج بلاد الإسلام أو في البلاد التي تحكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة، أولى من تركها لأهل الشر والفساد، وبطانة السوء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كما فعل نبي الله يوسف .
تاسعًا: يجوز أن يشارك المسلم كعضو في هيئة- مُحَلفين- شريطة أن يكون حكمه بما يوافق الشرع، بغرض إنصاف المظلومين من المسلمين وغيرهم، فيعيد لهم حقوقهم، وينتصر لهم من ظالميهم، ولا يحكم على أحد منهم بجور.
عاشرًا: يجب على المسلمين المقيمين خارج ديار الإسلام أفرادًا وجماعات أن يسعوا إلى إيجاد البديل الشرعي عن القضاء الوضعي، وذلك عن طريق مجالس الصلح والتحكيم ونحوه، والسعي إلى التسكين القانوني لهذه الآليات، والحصول على إقرار دول إقامتهم بأحكامها، وعليهم أن يتواصوا فيما بينهم بالأخلاق الإسلامية الكريمة التي تقيهم الخصومات ابتداءً. والله تعالى أعلى وأعلم.
تسبيب القرار:
قرر المجمع: «الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع وحده، والحكم بغير ما أنزل الله من المحرمات القطعية في الشريعة، وهو سبيل إلى الكفر أو الظلم أو الفسق بلا نزاع».
التوجيه: دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:
فأما الكتاب:
فقد قال الله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [يوسف: 67].
وقال تعالى: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47].
وقال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
وقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65].
وأما السنة: فقد قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللهَ هُوَ الحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الحُكْمُ»(1).
وأما الإجماع على ذلك: فقد حكاه ابن حزم وابن تيمية وابن كثير والشنقيطي وأحمد شاكر وغيرهم من أهل العلم.
وعبارة ابن حزم الأندلسي: لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن مَن حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام.
وعبارة شيخ الإسلام ابن تيميَّة: والإنسان متى حلَّل الحرام الـمُجمع عليه أو حرَّم الحلال المجمع عليه أو بدَّل الشرع المجمع عليه كان كافرًا باتفاق الفقهاء.
قرر المجمع: الأصل هو وجوب التحاكم إلى الشرع المطهر داخل دِيار الإسلام وخارجها، فإن أحكام الشريعة تُخاطب المسلم حيثما كان، وتحكيم الشريعة عند القدرة على ذلك أحد معاقد التفرقة بين الإيمان والنفاق.
التوجيه: دل على ذلك عموم ما سبق من دلالة الكتاب والسنة والإجماع، إذ الأصل أن النصوص تخاطب المسلم حيث كان، ولا نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل، ولا دليل هنا على التفرقة بين دار الإسلام وغيرها في وجوب تحكيم الشرع والتحاكم إليه.
قرر المجمع: إذا لم يكن سبيل إلى التحكيم الملزم للشريعة على مستوى الدول والحكومات، فإن هذا لا يسقط وجوب تطبيقها على مستوى الأفراد والتجمعات، فإن الميسور لا يسقط بالمعسور، وفي التحكيم والصلح ونحوه بدائل عن اللجوء إلى التحاكم إلى القضاء الوضعي القائم على خلاف الشريعة.
التوجيه: دل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
وقوله ﷺ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُؤَالُهُمْ وَاخْتَلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(2). وحديث: كنا إذا بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة يقول لنا: «فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ»(3).
قرر المجمع: يُرخص في اللجوء إلى القضاء الوضعي عندما يتعين سبيلًا لاستخلاص حق أو دفع مظلمة في بلد لا تحكمه الشريعة لانعدام البديل الشرعي القادر على ذلك، سواء أكان ذلك داخل بلاد الإسلام أم كان خارجها، ويقيد ذلك بما يلي:
– تعذر استخلاص الحقوق أو دفع المظالم عن طريق القضاء أو التحكيم الشرعي، لغيابه أو العجز عن تنفيذ أحكامه.
– اللجوء إلى بعض حملة الشريعة لتحديد الحكم الشرعي الواجب التطبيق في موضوع النازلة، والاقتصار على المطالبة به والسعي في تنفيذه، لأن ما زاد على ذلك ابتداءً أو انتهاءً خروج على الحق وحكم بغير ما أنزل الله.
– كراهية القلب للتحاكم إلى القضاء الوضعي، وبقاء هذا الترخص في دائرة الضرورة والاستثناء.
التوجيه: دل على ذلك:
– قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173] ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 145] وقوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: 115]
– كما يستفاد ذلك من القاعدة الفقهية: «الضرورات تبيح المحظورات»، ودلائلها المعروفة في كتب القواعد الفقهية.
– كما يدل على ذلك أيضًا: قصة لجوء الصحابة للمثول أمام الحاكم النجاشي الكافر يومئذ مرتين بسبب مطالبة كفار قريش بهم، وللذود عن حقهم في إبطال مزاعم قريش الباطلة فيهم.
ومن قرارت المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بشأن الرواية التي كتبها المدعو سليمان رشدي:
القرار الثالث: يعلن المجلس أنه يجب ملاحقة هذا الشخص، بدعوى قضائية جزائية تقدم عليه، وعلى دار النشر التي نشرت له هذه الرواية، في المحاكم المختصة في بريطانيا، وأن تتولى رفع هذه الدعوة عليه منظمة المؤتمر الإسلامي التي تمثل الدول الإسلامية وأن توكل هذه الدعوى أقوى المحامين المتمرسين في القضايا الجنائية أمام محاكم الجزاء البريطانية(4).
وواضح من القرار تجويزهم التحاكم إلى المحاكم البريطانية في تلك النازلة.
وأما ما يدل على القيد الأول: تعذر استخلاص الحقوق أو دفع المظالم عن طريق القضاء الشرعي، فهو أنه إذا أمكن استخلاص الحق أو دفع المظلمة عن طريق القضاء الشرعي لم تكن هناك ضرورة تلجئ إلى التحاكم إلى القانون الوضعي الذي حكمه التحريم كما تقدم لغير الضرورة.
وأما ما يدل على القيد الثاني: معرفة حكم الشرع في النازلة وعدم المطالبة بزيادة، فهو أن المطالبة بزيادة على حكم الشرع ظلم، والظلم حرام، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، فمن أدلة الكتاب، قوله تعالى:﴿أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 44] ومن أدلة السنة، الحديث القدسي: ««إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَـمُوا»»(5).
ومن دلائل ذلك: أن المسلم يجب عليه في حالة سلوك الوسيلة المباحة وهي التحاكم إلى الشرع ألا يأخذَ مالَ غيره وإن حكم له به الحاكم الشرعي لقوله ﷺ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْـخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا»»(6)، فمن باب أَوْلَى لا يبيح له حكم الحاكم غير الشرعي أن يظلم غيره.
ومن دلائل ذلك أيضًا: القاعدة الفقهية: «الضرورة تُقَدَّرُ بقَدْرها» ودلائلها المعروفة، ولأن الضرورة أباحت سلوك وسيلة محرمة لاستخلاص الحق ودفع الظلم، ولم تبح سلوكها لظلم الآخرين وأخذ ما ليس بحق.
ومن أدلة القيد الثالث: وهو كراهة القلب للتحاكم إلى القانون الوضعي قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106] ومنها حديث: «فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»(7)، وحديث: «وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»(8).
قرر المجمع: يشرع العمل بالمحاماة للمطالبة بحق أو دفع مظلمة، سواء أكان ذلك أمام القضاء الشرعي أم أمام القضاء الوضعي، وسواء أكان ذلك في بلاد الإسلام أم كان خارجها، وكل ما جاز فيه التحاكم بالأصالة جاز فيه التحاكم بالوكالة، ولا حرج في توكيل المسلم لغير المسلم في الخصومة، سواء أكان الخصم مسلمًا أم غير مسلم.
ويشترط لجواز العمل بالمحاماة ما يلي:
– عدالة القضية التي يباشرها بحيث يكون وكيلًا عن المظلوم في رفع مظلمته، وليس معينًا للظالم على ظلمه.
– شرعية مطالبه التي يرفعها إلى القضاء ويطالب بها لموكله.
التوجيه: دل على ذلك ما رُوي أن عليًّا رضي الله عنه  وَكَّلَ عبدَ الله بن جعفر عند عثمان وقال: إن للخصومة قحمًا- أي: مهالك- وإن الشيطان يحضرها وإني أكره أن أحضرها(9).
كما روي أن عليًّا رضي الله عنه  وَكَّل عقيلًا عند أبي بكر رضي الله عنه  وقال: ما قُضي له فلِي وما قُضي عليه فعَلَيَّ.
وقد احتج الفقهاء بهذه الآثار على مشروعية التوكيل في الخصومة، «وهو التكييف الفقهي للمحاماة»، ونقل ابن قُدامة إجماعَ الصحابة على مشروعية التوكيل في الخصومة(10).
قرر المجمع: يحرم تقلد ولاية القضاء في ظل سلطة لا تؤمن بالشريعة، ولا تدين لحكمها بالطاعة والانقياد، إلا إذا تعيَّن ذلك سبيلًا لدفع ضررٍ عظيمٍ يتهدد جماعة المسلمين، ويرجع في تقدير هذا الضرر إلى أهل الفتوى، ويشترط للترخص في هذه الحالة ما يلي:
– العلم بأحكام الشريعة الإسلامية، والقضاء بأحكامها ما أمكنه ذلك.
– كون الغاية من هذا الترخص تخفيف ما يمكن تخفيفه من الشر عن المسلمين وتكثير ما يستطيع تكثيره من الخير لهم.
– اختيار أقرب تخصصات القضاء لأحكام الشريعة الإسلامية ما أمكن.
كراهية القلب لتحكيم القانون الوضعي، وبقاء هذا الترخص في دائرة الضرورة والاستثناء.
التوجيه: ظواهر الآيات الكريمة التي فيها كفر مَن حَكَم بغير ما أنزل الله وتسميته طاغوتًا، فقال جمهور العلماء: إن الحكم بغير ما أنزل الله ما دام كفرًا فلا يبيحه إلا الإكراه، والمسلمون لم يكرهوا على تولي القضاء في المحاكم الوضعية.
قال الإمام ابن القيم :: لا خلاف بين الأُمَّة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان(11).
بينما قال فريق من العلماء: يجوز العمل بالقضاء لدى دولة كافرة أو دولة تحكم بقانون كُفري، ولو أدَّى ذلك لحكمه بشريعتهم، إذا كان في توليه القضاء تكثير للخير وتقليل للشر قدر الإمكان.
وممن قال بهذا من السابقين شيخ الإسلام ابن تيميَّة :، ومن المعاصرين جماعة من علماء الأزهر ومن علماء شنقيط ومن علماء الخليج ومن حججهم:
– تولي يوسف عليه السلام  الحكمَ في دولة كافرة، ولم يمكنه أن يحكمَ بكل أحكام الإسلام، ولا يُقال إن تولي الحكم غير تولي القضاء، فإن الحاكم يقضي بين الناس.
– إقرار النبي ﷺ للنجاشي في ملكه مع كون النجاشي كان كذلك حاكمًا مسلمًا في دولة كافرة، وكان تبعًا لذلك يحكم بأشياء من شريعتهم تخالف شريعة القرآن.
– حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ قال: «شَهِدْتُ مَعَ عُمُومَتِي حِلْفَ المطَيَّبِينَ، فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَنْكُثَهُ وَأَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَم»(12)، وهذا الحلف تتوفر فيه عناصر الحكم والتحاكم من فضٍّ للنزاعات بين الظالم والمظلوم، والقائمون عليه من أكابر المشركين، وما أحب النبي ﷺ أن ينقضه ولو بحُمر النَّعم، لقِيامه على معنى صحيح لا يتعارض مع الشرع، وهو إنصاف المظلوم من الظالم.
حديث أنس قال: لما افتتح رسول الله ﷺ خيبر، قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالًا وإن لي بها أهلًا وإني أريد أن آتيهم فأنا في حلٍّ إن أنا نلتُ منك أو قلت شيئًا؛ فأذن له رسول الله ﷺ أن يقولَ ما شاء، فأتى امرأته حين قدم؛ فقال: اجمعي لي ما كان عندك فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد ﷺ وأصحابه فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم، قال: ففشا ذلك في مكة وانقَمَعَ(13) المسلمون وأظهر المشركون فرحًا وسرورًا، قال: وبلغ الخبر العبَّاس، فَعَقَر(14)، وجعل لا يستطيع أن يقومَ… إلى آخر الحديث(15).
ووجه الشاهد منه: أن النبي ﷺ رخَّص للحجَّاج أن ينالَ منه ﷺ من أجل أن يتمكنَ من استرداد ماله الذي بمكة، مع أن النَّيْلَ من الرسول ﷺ كفرٌ، فلأن يجوز الحكم بالقانون الوضعي من أجل صيانة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم أولى.
إلحاق العمل القضائي بدخول المجالس النيابية التشريعية التي وظيفتها التشريع من دون الله، الذي أباحه كثير من أهل العلم بسبب الموازنة بين المصالح والمفاسد، وعند التأمل نجد أن بين المسألتين تشابهًا كبيرًا من جهة ميزان المصالح والمفاسد ومن جهة أن كلًّا منهما داخل في الحكم بغير ما أنزل الله فينبغي لمن أباح هذه أن يبيحَ تلك.
كثيرٌ ممن منع الحكم بغير ما أنزل الله مطلقًا قد أباح التحاكم إلى غير ما أنزل الله في بعض الحالات، وبين المسألتين تشابه كبير، حيث إن الأدلة على أن الحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ هي عين الأدلة الدالة على أن التحاكمَ إلى الطاغوت كفرٌ، فإذا أبحنا هذا لبعض الضرورات والحاجيات لزمت إباحة الآخر لما يماثله أو يزيد عليه من الضرورات والحاجيات.
وفي الشروط التي وضعها المجمع توفيق بين الأدلة ومراعاة لمقاصد الشريعة.
قرر المجمع: لا حرج في دراسة القوانين الوضعية المخالفة للشريعة أو تولى تدريسها للتعرف على حقيقتها وبيان فضل أحكام الشريعة عليها، أو للتوصل بدراستها إلى العمل بالمحاماة لنصرة المظلومين واستخلاص حقوقهم، بشرط أن يكون عنده من العلم بالشريعة ما يمنعه من التعاون على الإثم والعدوان.
التوجيه: الأُمُورُ بمقاصِدِها، وقد قال ﷺ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»(16)، ودراسة القوانين الوضعية تشبه دراسة العقائد الباطلة، وقد أعلمنا الله تعالى في كتابه الكريم بالعديد من العقائد الباطلة والشرائع المنحرفة للتحذير منها ومناظرة أهلها وجدالهم بالتي هي أحسن، فمَن درسَ القانون الوضعي لهذه الأغراض فلا حرَجَ عليه، كما أنه تعالى قال في كتابه الكريم: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: 2] والحالات التي أباح قرار المجمع فيها دراسة القوانين الوضعية داخلة في التعاون على البر والتقوى إذ من البر إنصاف المظلومين.
قرر المجمع: تولي الصالحين الأكفاء من المسلمين بعض الولايات العامة خارج بلاد الإسلام أو في البلاد التي تحكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة، أولى من تركها لأهل الشر والفساد، وبطانة السوء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كما فعل نبي الله يوسف .
التوجيه: دل على ذلك:
– تولي يوسف عليه السلام  الحكم في دولة كافرة، ولم يمكنه أن يحكم بكل أحكام الإسلام.
– إقرار النبي ﷺ للنجاشي في ملكه مع كون النجاشي كان كذلك حاكمًا مسلمًا في دولة كافرة، وكان تبعًا لذلك يحكم بأشياء من شريعتهم تخالف شريعة القرآن.
وممن أباح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية :، حيث قال: والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا بل وإمامًا وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعملَ بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عُودي وأُوذي على بعض ما أقامه من العدل وقيل: إنه سُمَّ على ذلك، فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها(17 ).
وقال الإمام القرطبي في «تفسيره»: قال بعض أهل العلم: في هذه الآية: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك.
وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز، والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه، قال الماوردي: «فإن كان المولى ظالمًا فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما: جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده؛ لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره(18).
قرر المجمع: يجوز أن يشارك المسلم كعضو في هيئة (مُحَلفين) شريطة أن يكون حُكمه بما يوافق الشرع، بغرض إنصاف المظلومين من المسلمين وغيرهم، فيعيد لهم حقوقهم، وينتصر لهم من ظالميهم، ولا يحكم على أحد منهم بجور.
التوجيه: أدلته هي عين أدلة سادسًا وثامنًا، حيث إن هيئة المحلفين تتولى نوعًا من أنواع القضاء والحكم فينطبق عليها ما ينطبق على القاضي والحاكم.
قرر المجمع: يجب على المسلمين المقيمين خارج ديار الإسلام أفرادًا وجماعات أن يسعوا إلى إيجاد البديل الشرعي عن القضاء الوضعي، وذلك عن طريق مجالس الصلح والتحكيم ونحوه، والسعي إلى التسكين القانوني لهذه الآليات، والحصول على إقرار دول إقامتهم بأحكامها، وعليهم أن يتواصوا فيما بينهم بالأخلاق الإسلامية الكريمة التي تقيهم الخصومات ابتداءً.
التوجيه: دليله أن: ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب، ومن الواجب تحكيم شرع الله والتحاكم إليه، ومن الواجب على المقيم خارج بلاد الإسلام أن يظهرَ بها دينه، وهذه الواجبات لا تتم إلا بما ذكر في قرار المجمع. والله تعالى أعلم.

_______________________

(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في تغيير الاسم القبيح» حديث (4955)، والنسائي في كتاب «آداب القضاة» باب «إذا حكموا رجلا فقضى بينهم» حديث (5387) من حديث هانئ بن يزيد رضي الله عنه ، وصححه الألبانى في «صحيح أبي داود» حديث (4145(، و«صحيح الجامع» حديث (1845)، و«صحيح النسائي» حديث (4980).

(2) أخرجه البخاري في كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» باب «الاقتداء بسنة رسول الله ﷺ» حديث (7288)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «فرض الحج مرة في العمر» برقم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الأحكام» باب «كيف يبايع الإمام الناس» حديث (7202)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع» حديث (1867) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه .

(4) قرارت المجمع الفقهي الإسلامي (252)، راجع الملاحق.

(5) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصله والآداب» باب «تحريم الظلم» حديث (4674) من حديث أبي ذر .

(6) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «المظالم والغصب» باب «إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه» حديث (2458)، ومسلم في كتاب «الأقضية» باب «الحكم بالظاهر واللحن بالحجة» حديث (1713) من حديث أم سلمة ل.

(7) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان» حديث (49) من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه .

(8) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك» حديث (1854) من حديث أم سلمة ل.

(9) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (6/81) حديث (11220)، وضعفه الألباني في «إرواء الغليل» (31466).

(10) «المغني» (7/2303).

(11) «إعلام الموقعين» (3/2191).

(12) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/190) حديث (1655)، والحاكم في «مستدركه» (2/239) حديث (2870) من حديث عبد الرحمن بن عوف ، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (1900).
وحلف المطَيَّبِينَ:هو تحالف بنو هاشم وزهرة وتيم على نُصرة المظلوم.

(13) أي: رجعوا.

(14) أي بقي مكانه لم يتقدم ولا يتأخر ولا تحمله رجلاه.

( 15) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/138) حديث (12432)، وابن حبان في «صحيحه» حديث (10/390- 391) حديث (4530)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/154- 155) وقال: «رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجاله رجال الصحيح».

(16) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «بدء الوحي» باب «بدء الوحي» حديث (1)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية» حديث (1907) من حديث عمر بن الخطاب .

(17) «مجموع الفتاوى» (20/256).

(18) «تفسير القرطبي» (9/215).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   18 القضاء

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend