جزاكم الله خيرًا على جهودكم، أنا العبد الفقير لله إمام مسجد بكاليفورنيا، هناك قضية كبيرة شغلَتِ الجاليةَ، وهي أن أَحَد شباب المسلمين «أحمد» تعرَّض للضَّرْب من قِبَل شابٍّ من الشِّيعة «مؤمن» حتى كُسِرت سِنُّه وشُجَّ وجهُه وبان عَظْم وجهه، لم يكن الجاني «مؤمن» وحده، بل تعاون معه مجموعةٌ من شباب أهل السُّنة للأسف «س»؛ أمسك بيدَيِ الـمَجْنيِّ عليه ومَنَعه من الدِّفاع عن نفسه. «هيثم» بعث إلى المجنيِّ عليه رسالةً من جوَّاله يدعوه إلى الحضور إلى مكانٍ مُحدَّد حيث كان الجاني ومَن معه بانتظاره، حتى إنه عندما حاول بعضُ غير المسلمين التدخُّلَ للدفاع عن المجنيِّ عليه قام «ص» بمَنْعهم من ذلك. وقد حصل الاعتداءُ من جرَّاء اعتقاد الجاني مؤمن أن المجنيَّ عليه أحمد قد ذَكَر معشوقته بسوء وتبيَّن لهم بعد ضَرْب المجني عليه أنه بريءٌ.
أُحاول مع إمام المسجد الآخر حَلَّ القضية إسلاميًّا؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد علمتَ أن التحكيمَ لا مدخل له في الحدود والقصاص؛ لاختصاص ذلك بالدولة ذات الشوكة والمَنَعة، ولكنْ في الصُّلح متسعٌ لحَسْم هذه المنازعات إذا صحَّ العزم على إنهاء هذه الخصومات في إطار جماعة المسلمين وعدم تصعيدها إلى المحاكم الجنائية، وينبغي لأهل الرُّشْد والبصيرة أن يحرصوا على ذلك.
فإذا استنطقنا الفقه في هذه القضايا فإننا نجد أن ديةَ السِّنِّ خمسٌ من الإبل إن كانت الجنايةُ خطأً، قال الشافعيُّ: «أخبرنا مالكٌ، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه: أن في الكتاب الذي كتبه رسولُ الله ﷺ لعمرو بن حزم: «فِي السِّنِّ خَمْسٌ»(1). أخبرنا مسلم، عن أبيه، عن ابن جُرَيج، عن طاوس، عن أبيه، قال :: ولم أَرَ بين أهل العلم خلافًا في أن رسولَ الله قضى في السِّنِّ بخمسٍ(2). وهذا أكثرُ مِن خبر الخاصة، وبه أقول، فالثَّنايا والرَّبَاعِيَات والأنياب والأضراس كلُّها- ضِرْس الحلم وغيرُه- أسنان، وفي كلِّ واحدٍ منها إذا قُلِع خمسٌ من الإبل لا يُفضَّل منها سِنٌّ على سنٍّ»(3).
كما نجد مثلَ ذلك في شجِّ الوجه حتى يظهر عظمه، فإنَّ شجَّ الوجه حتى يظهر العظم يُسمَّى بلغة الفقهاء: الـمُوضِحة، وفي الموضحة الخطأِ نصفُ عُشْر الدِّيَة، وفي عَمْدها القصاص؛ وسُمِّيَت مُوضِحَةً لأنها أَبْدَتْ وَضَحَ العظم وهو بياضه. وأجمع أهلُ العلم(4) على أن أَرْشَها مُقدَّرٌ، قاله ابنُ المنذر، وفي كتاب النبي ﷺ لعمرو بن حزم: «وَفِي الْـمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ»(5). ورُوي عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه عن جدِّه، عن النبي ﷺ أنه قال: «فِي الْـمَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ». رواه أبو داود والنَّسائي، والترمذي وقال: حديث حسن(6).
فإذا اصطلح الطَّرفان على الدِّيَة وقُدِّرت هذه الإبل بقيمتها المعاصرة وقَبِل بها المجنيُّ عليه، فأرجو أن يكونَ في ذلك حَسْمٌ لهذه المنازعة، فإن أراد المجنيُّ عليه أن يعفو عمن ظلمه، ففي ذلك عِزُّه في الدنيا والآخرة، ويوم القيامة يُنادى:
أين الذين على الرحمن أجرُهمُ
فلا يقومُ سوى العافي عن الناسِ
وفَّق اللهُ الجميعَ إلى ما يحبه ويرضاه، واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
____________________
(1) أخرجه مالك في «موطئه» (2/849) حديث (1547)، والنسائي في كتاب «القسامة» باب «ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول» حديث (4857)، والدارمي في كتاب «الديات» باب «في دية الأسنان» حديث (2375)، وابن حبان في «صحيحه» (14/508) حديث (6559)، والحاكم في «مستدركه» (1/553) حديث (1447)، من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده رضي الله عنه ، وقال الحاكم: «هذا حديث كبير مفسر في هذا الباب يشهد له أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز»، وضعفه الألباني في «ضعيف سنن النسائي» (4853).
(2) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (9/334) حديث (17490)، من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه، بنحوه. وابن أبي شيبة في «مصنفه» (6/9) حديث (29058) عن ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه، بنحوه.
(3) «الأم» (6/125).
(4) جاء في «المبسوط» من كتب الحنفية (26/73-75): «قال: وفي الموضحة نصف عشر الدية».
وجاء في «شرح مختصر خليل للخرشي» من كتب المالكية (8/34-35): «وفي الموضحة نصف عشر الدية وهي التي توضح عظم الرأس أو الجبهة أو الخدين».
وجاء في «تحفة المحتاج» من كتب الشافعية (8/415-416): «(ولو أوضح) يؤخذ منه أن الموضحة ومثلها البقية ما عدا الأخيرتين مشتركة بين جرح الرأس والوجه وسائر البدن وعليه جرى من قال يتصور الكل في سائر البدن بخلاف الشجة فإنها خاصة كما مر وحينئذ فالإخبار عنها بتلك العشر يراد به أحد مدلوليها فقط عند من لم يعممها فتأمله (في باقي البدن) كصدر وساعد (أو قطع بعض مارن) وهو ما لان من الأنف (أو) بعض (أذن) أو شفة وإطارها وهو بكسر فتخفيف المحيط بها أو ما في الروضة أنه لا قود فيه تحريف، وإنما هو إطار السه أي الدبر؛ لأنه الذي لا نهاية له أو لسان أو حشفة (ولم يبنه) بأن صار معلقا بجلدة والتقييد بذلك لجريان الخلاف فاعتراضه ليس في محمله (وجب القصاص في الأصح)»
وجاء في «كشاف القناع» من كتب الحنابلة (6/52-54): «وخمس) أي من الشجاج (فيها مقدر أولها الموضحة) والوضح البياض (وهي التي توضح العظم) أي تبدي بياضه (أي تبرزه ولو بقدر رأس بزة وموضحة الرأس والوجه سواء) لعموم الأخبار (وفيها إن كانت من حر مسلم ولو أنثى خمس من الإبل) لما في حديث عمرو بن حزم: وفي الموضحة خمس من الإبل».
(5) التخريج قبل السابق.
(6) أخرجه أبو داود في كتاب «الديات» باب «ديات الأعضاء» حديث (4566)، والترمذي في كتاب «الديات» باب «ما جاء في الموضحة» حديث (1390)، والنسائي في كتاب «القسامة» باب «المواضح» حديث (4852). وقال الترمذي: «حسن صحيح».