التوبة من اليمين الغموس

أرجو إفتائي في أمري: كان هناك عراك بين طرفين أحدهم صديق والآخر كنت أُبغضه، وكلنا جيران، وكانت غوغاء، وكنت أرى من بعيد ولم أتدخل لفض الاشتباك، وبعد انتهاء العراك أتاني شاب صغير وكان مقهورًا غاضبًا يكاد يبكي، ولم أكن أعرفه، وسألني ومن كان بجانبي: هل رأيت العراك؟ قلت: نعم. فسألته عن سبب سؤاله وما هي قصته؟ فقال: إنه كان مارًّا من الطريق الذي حصل فيه العراك، وإن أحد أطراف العراك- الذي أبغضه- قد اعتدى عليه بالضرب، وإنه يُريد أن يُبلغ الشرطة، ويبحث عمن شهد العراك ليشهد معه في قسم الشرطة.
طبعًا كان العراك كبيرًا، وفيه ناس كثر، وكانت غوغاء، ولم أَرَ من وكيف اعتُدي على هذا الشاب الصغير الذي لم يكن طرفًا فيه، فقلت له: نعم، سأشهد معك أنه ضربك.
فذهب للشرطة واشتكى، وقد كان أطراف العراك في قسم الشرطة، وقد كان الطرف الذي أبغضه، وذهبت أشهد ضده، وقد كان مُنكِرًا أنه اعتدى على هذا الشاب، وطلبوني للشهادة، وشهدت أني رأيته يضربه وأقسمت على ذلك، وكنت أُردِّد اليمين خلف المحقق، وكان يمينا عظيمًا، أذكر منه أن الله يصيبني في نفسي ونصيبي ومالي وغير ذلك من الأشياء إن كنت كاذبًا في هذه الشهادة.
المهم أن القضية لم تُحَلَّ عند الشرطة، وقام أهل ذلك الشاب بالانتقام من هذا الرجل واعتدوا عليه، ثم كبرت المشكلة وفي النهاية ارتضى الجميع الحَلَّ القَبَليَّ وقاموا بتحكيم شيخ، فحكم في القضية لا أعلم بماذا، ولكني سمعت أن هذا الرجل ذهب وذبح ثورًا لإرضاء أهل هذا الشاب، ولا أدري إن كان دفع تعويضًا أو لا، ولكن هكذا تسري الأحكام القبلية في بلادنا.
المهم أنني اغتربتُ في الخارج، ولا أذهب لوطني إلا شهرًا في السنة، ومرة من المرات لقيت الرجل الذي كنت أبغضه، والذي شهدت عليه، وسلمت عليه وطلبت منه السماح، ولم يعرفني؛ لأن الفترة التي لم أَرَهُ فيها تقريبًا ثماني أو تسع سنوات، فسامحني ولكني لم أَقُل له لماذا وعن ماذا، وأشك أنه تعرَّف عليَّ، ولكنه سلم عليَّ وسامحني بعفوية وقال: الله يسامحك يا ولدي. وهذا هو طبع المجتمع الذي أنتمي إليه.
سؤالي هو: هل أكتفي بهذا، أم يجب أن أقول له أني شهدتُ ضده في تلك القضية وأشرح له وأُذكِّره بما كان وأطلب منه السماح مرة أخرى؟ مع العلم أني أستحي من ذلك وأخاف إن ذكرته بهذه القضية يكون ردُّه مختلفًا عن السماح، وقد مر على هذه القضية ما يقارب العشر سنوات أو أكثر.
أفيدوني وأفتوني وأشيروا عليَّ رحمكم الله، كيف أُنظِّف نفسي من تلك الشهادة وذلك اليمين، وأنا خائف أن يكون الله يُمهلني أو أن يصيبني ذلك اليمين بأكثر مما عانيت منه. وجزاكم الله خير.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد ظلمت نفسك بهذه الشهادة وعرضتها لعقوبة اليمين الغموس، واليمين الغموس هو الحلف ممن يعلم كذب نفسه فيما أقسم عليه! وسُمِّيت بذلك لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم(1)، وجمهور أهل العلم(2) على أنها لا يُكفَّر عنها كما يكفر عن سائر الأيمان المنعقدة، وإنما على صاحبها التوبة والاستغفار والإكثار من الحسنات وفعل الصالحات، وقد تبت إلى الله عز وجل ، فنسأل الله أن يتقبَّل توبتك.
ولا يلزم أن تُخبر صاحب المظلمة بتفاصيل الحدث، فقد يُؤدِّي هذا إلى إثارة ثائرة الفتن مرة أخرى، ولكن حسبك أنك استسمحته إجمالًا فسامحك.
وننصحك بأن تُخرج كفارة يمين على سبيل الاحتياط خروجًا من خلاف أهل العلم في هذه المسألة، وأن تُداوم على الاستغفار وعمل الصالحات، فإن الحسنات يُذهبن السيئات(3)، وأن تستكثر من الدعاء لصاحب هذه المظلمة. ونسأل لله لنا ولك التوبة والمغفرة. والله تعالى أعلى وأعلم.

_________________

(1) فقد أخرج البخاري في كتاب «الأيمان والنذور» باب «اليمين الغموس» حديث (6675) من حديث عبد الله بن عمرو ب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِالله، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ».

وأخرج الحاكم في «مستدركه» (4/329) حديث (7809) عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نُعد الذَّنْب الذي لا كفارة له: اليمين الغموس. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه فقد اتفقا على سند قول الصحابي».
وأخرج البيهقي في «الكبرى» (10/35) حديث (19655) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ».
وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (2/19) حديث (1092) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه  أيضًا بلفظ: «إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، وإن أهل البيت ليكونون فُجَّارا فتَنمُوا أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامَهم، وإن أعجل المعصية عقوبةً البغيُ والخيانة، واليمين الغموس تُذهب المال وتقل في الرحم وتذر الديار بلاقع»، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/180) وقال: «رواه الطبراني في الأوسط وفيه أبو الدهماء الأصعب وثقه النفيدي وضعفه ابن حبان».
وبلاقع: جمع «بلقع»، وهي الأرض القفراء التي لا شيء فيها.

(2)جاء في «المبسوط» من كتب الحنفية (8/127-129): «والتي لا تكفر اليمين الغموس، وهي المعقودة على أمر في الماضي أو الحال كاذبة يتعمد صاحبها ذلك، وهذه ليست بيمين حقيقة؛ لأن اليمين عقد مشروع، وهذه كبيرة محضة، والكبيرة ضد المشروع ولكن سماه يمينا مجازا؛ لأن ارتكاب هذه الكبيرة لاستعمال صورة اليمين كما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الحر بيعا مجازا؛ لأن ارتكاب تلك الكبيرة لاستعمال صورة البيع، ثم لا ينعقد هذا اليمين فيما هو حكمه في الدنيا عندنا، ولكنها توجب التوبة والاستغفار».

وجاء في «التاج والإكليل» من كتب المالكية (4/406-408): «(وغموس بأن ظن أو شك وحلف) من المدونة قال مالك : الغموس الحلف على تعمد الكذب أو على غير يقين وهو أعظم من أن تكفره الكفارة لقوله تعالى: ﴿إن الذين يشترون بعهد الله﴾ ولقوله صلى الله عليه وسلم : من اقتطع… الحديث. وابن حبيب: وليتب الحالف بها إلى الله سبحانه يتقرب إلى الله بما قدر عليه من عتق أو صدقة أو صيام».
وجاء في «الإنصاف» من كتب الحنابلة (11/16-18): «وقوله (فأما اليمين على الماضي: فليست منعقدة. وهي نوعان: يمين الغموس. وهي التي يحلف بها كاذبا، عالما بكذبه). يمين الغموس: لا تنعقد على الصحيح من المذهب. نقله الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله. قال المصنف والشارح: ظاهر المذهب لا كفارة فيها. قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب. قال الزركشي: وعليه الأصحاب. وجزم به في الوجيز، وغيره. وقدمه في الفروع وغيره. وعنه فيها الكفارة ويأثم، كما يلزمه عتق وطلاق، وظهار وحرام ونذر. قاله الأصحاب. فيكفر كاذب في لعانه. ذكره في الانتصار. وأطلقهما في الهداية».

(3) قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   11 التوبة, 17 الأيمان

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend