قريبة لي أرسلت لي مقطعَ الفيديو هذا، وهي تستحلفني أن أسالك أو غيرك عن أمر جعلها كالمجنونة.
يتعلق الأمر بشريط فيديو لصيدلي يُجيب شابًّا أرسل له سؤالًا بأن كلَّ كحول مسكر، وهو الأمر الذي يرفضُه كثيرٌ ويناقضه به كل الصيادلة والكيميائيين، وحتى أن الرجل نفسه ناقض نفسه. كما أرسلت لي قريبتي.
وقال لها: المنثول كحول طبيعي والجلسرين به شبهة، أي لم يحكم عليهم بالنجاسة. رغم أنه قال في أول دقيقتين من الفيديو أن كل مسكر نجس.
قريبتي أيضًا أرسلت لي موقعكم وأخبرتني أنها تثق بفتواكم، لكنكم لا تردون عليها، والذي زاد جنانها أن نوع «البنزيل الكحولي» متواجد في الفواكه الطبيعية الذي نتناوله كالتوت والكاكاو والفاصوليا، بل ويتواجد في الزيوت العطرية الطبيعية كالياسمين. فهل كل تلك الأمور نجسة؟ وهو يتواجد في العسل أيضًا.
أرجو إجابتنا، حتى إنها شككتني في نفسي، فسؤالها منطقي، وهي أيضًا تبكي قهرًا، وتقول لي أنها تعلم أن الرسولَ أخبرنا بحلِّ الفواكه والعسل، فهل هناك خطأ في ديننا، خاصة مع قول ذلك الصيدلي ذلك الكلام.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فكم آسفني ما عنونت به استفتاءَك، وهو قولك: (فهل أخطأ الرسول وغاب عنه أن العسل والفواكه به كحول؟!). وقولك في نهاية استفتائك: (فهل هناك خطأ في ديننا خاصة مع قول ذلك الصيدلي ذلك الكلام؟!).
وعجبت من جرأتك على هذا القول، وعلى تخطئة الرسالة والرسول بسبب قول هذا الصيدلي، وهو الأمر الذي لا يجرؤ على قوله رجلٌ يؤمن بالله ورسوله!
يا حسرة على العباد! ألم يكن الأقرب والأليق بكونك مسلمًا تخطئةَ نفسك أو الصيدلي في الفهم عن الله ورسوله، بدلًا من تخطئة الديانة والرسول؟! وصدق القائل:
وكم من عائب قول سليمًا *** وآفته من الفهم السقيم
لقد أجبت قريبتك المستفتية من قبل عدة مرات، حتى أيقنت أن مشكلتها نفسية وليست فقهية، وأن علاجها عند الأطباء وليس عند الفقهاء، ويبدو أنه قد أصابك جزءٌ مما أصابها.
لقد ذكرت لها من قبل أن نجاسةَ الخمر موضعُ نظر بين الفقهاء، وأن الأقربَ هو القولُ بأن نجاستها معنوية كنجاسة المشركين والأنصاب والأزلام، وليست حسية كنجاسة البول والغائط.
ومما يستدل به على ذلك ما يلي:
• ما جاء في وصف الخمر بأنها {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، فهو رجس عملي، وليس رجسًا عينيًّا ذاتيًّا، والدليل على ذلك ما جاء في صدر الآية من جمعها مع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]. ومن المعلوم أن ما قُرن مع الخمر من الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجاسته نجاسةً حسية، فإذا كانت الثلاثة نجاستها نجاسة معنوية، فكذلك الخمر نجاسته معنوية؛ لأنه من عمل الشيطان، والأصل أن تتفق هذه الأربعة في الوصف الواحد الذي اقترنت فيه.
• ما ثبت من إراقة المسلمين للخمر في الأسواق وفي شوارع المدينة وسككها(1)، ولو كانت نجسة ما جازت إراقتها في الأسواق، لأن تلويث الأسواق بالنجاسات محرم ولا يجوز.
• كونه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسل الأواني منها، ولو كانت نجسة لأمر بغسل الأواني منها كما أمر بغسلها من لحوم الحمر الأهلية حين حرمت(2).
فقد ثبت في «صحيح مسلم»: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راويةَ خمرٍ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟» قال: لا. فسَارَّ إنسانًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بِمَ سَارَرْتُهُ؟» فقال: أمرتُه ببيعها. فقال: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا». قال: ففتح المزَادَةَ حتى ذهب ما فيها(3). ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسلها منه، ولا منعه من إراقتها هناك.
قالوا: فهذا دليل على أن الخمر ليست نجسًا نجاسةً حسيةً، ولو كانت حسية لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الراوية، ونهاه عن إراقتها هناك.
• وأخيرًا فإن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يوجد دليلٌ بيِّنٌ يدلُّ على النجاسة، وحيث لم يوجد دليل بيِّن يدل على النجاسة، فإن الأصل أنه طاهر، لكنه خبيث من الناحية العملية المعنوية، ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون نجسًا، ألا ترى أن السم حرامٌ وليس بنجس؟! فكل نجس حرام وليس كل حرام نجسًا.
وإذا تقرر ذلك فقد سقط الأمرُ كله من الأساس، هذا الذي أثار جنون قريبتك أو كاد.
ومن ناحية أخرى فإنه إذا اختلط الخمر بشيء، ثم لم يظهر له أثرٌ ولو أكثر الإنسان منه، فإنه لا يوجب تحريمَ ذلك الخليط؛ لأنه لما لم يظهر له أثر لم يكن له حكم، إذ إن علة الحكم هي الموجِبَة له، فإذا فُقدت العلة فُقد الحكم، ويكون الشيء مباحًا، كما أنه لو سقطت قطرة من بول في ماء، ولم يتغير بها، فإنه يكون طاهرًا، فكذلك إذا سقطت قطرة من خمر في شيء لم يتأثر بها، فإنه لا يكون خمرًا.
فإذا أضفت إلى ذلك أن المسألة التي تتحدث عنها ليس فيها إضافة متعمدة للكحول، وإنما تحدث بفعل التخمُّر الطبيعي، وليست مصنَّعة، ولا أثر لها على متناولها، أدركت أن الضجة مفتعلة، وأن القضية موهومة، ووجدت نفسك مندفعًا إلى المبادرة إلى الاستغفار من هذه الجرأة على نبيك وعلى شريعته، وغسلت بدموع الندم نجاسةَ هذه الخطيئة، فإن هذه الخطيئة هي الأولى بالوصف بالنجاسة من القول بنجاسة الخمر، أو نجاسة الفواكه والعسل لما تتضمنه من نسبة من الكحول الطبيعي.
وبقيت كلمة أخيرة:
لو افترضنا جدلًا أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كان عن اجتهاد منه، وأنه بحكم بشريته قد يُخطئ في اجتهاده، أما علمت أنه لا يُقِرُّه الوحي على خطأ قط، خاصة فيما يتعلق بالشريعة والحل والحرمة؟! وأن هذا من مقتضيات عصمته واعتقاد رسالته صلى الله عليه وسلم.
اللهم اغفر لصاحب هذا السؤال ولقريبته، وردهما إليك ردًّا جميلًا، وطهر قلوبهما من الجرأة على نبيك وعلى شريعته صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المظالم والغصب» باب «صب الخمر في الطريق» حديث (2464)، ومسلم في كتاب «الأشربة» باب «تحريم الخمر» حديث (1980) من حديث أنس رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها. فخرجت فهرقتها فجَرَت في سكك المدينة.
(2) أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد» باب «لحوم الحمر الإنسية» حديث (5528) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاءٍ فقال: أكلت الحُمُر. ثم جاءه جاء فقال: أكلتُ الحمر. ثم جاءه جاء فقال: أفنيت الحمر. فأمر مناديًا فنادى في الناس إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهلية فإنها رجسٌ. فأُكفِئت القدور وإنها لتفورُ باللَّحم.
(3) أخرجه مسلم في كتاب «المساقاة» باب «تحريم بيع الخمر» حديث (1579).