هل الأصل في اللحوم الحِلُّ أم الحرمة؟ وما أثرُ ذلك على حكم اللحوم المنتشرة في المجتمعات غير الإسلامية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الأصلَ في اللحوم التحريمُ حتى يظهر الحِلُّ، وذلك بتوافر شروطه من: التذكية، والتسمية، وكون الذابح مسلمًا أو كتابيًّا، وكون الحيوان مما يحل للمسلم أكلُه. وهذا هو الذي عليه جمهور فقهاء المذاهب الأربعة(1).
ويقصد باللحوم الذبائح، أما الحيوانات فهي كما سبق على أصل الحل، إلا ما ورد الاستثناءُ بتحريمه؛ لأن الأصلَ في الأطعمة الحِلُّ حتى تثبت الحرمة. وسوف نُدلِّل على كلٍّ من هذين الأصلين فيما يلي:
فمن الأدلة على أن الأصلَ في اللحوم التحريم حتى يظهر الحلُّ:
• قوله تعالى:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة: 3] ووجه الدلالة من الآية أن ما لم تتحقق فيه الذكاة الشرعية فإنه باقٍ على أصله من التحريم.
• قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 121] ووجه الدلالة من الآية أن ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه فإنه باقٍ على أصله من التحريم.
• ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عديِّ بن حاتمٍ رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَمْسَكَ وَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا خَالَطَ كِلَابًا لَـمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهَا فَأَمْسَكْنَ وَقَتَلْنَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّها قَتَلَ، وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلَّا أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ فِي المَاءِ فَلَا تَأْكُلْ»(2).
ووجه الدلالة من الحديث: أن النهيَ عن الأكل من الذبيحة عند حصول الشك في الذكاة المُبيحة للحيوان دليلٌ على أن ما لم تتحقق فيه الذكاة الشرعية فإنه باقٍ على أصله من التحريم.
وهذا الحديث وإن كان في الصيد إلا أنه فيما أباحه الله من الحيوان، فاجتمع هو والمذكاة من حيث أصل إباحة أَكْلها إذا توفَّر سببُ حِلِّها، وهو التذكية أو الصيد، فإن شك في السبب مُنع من أكلها؛ بناء على أن الأصلَ في الميتة التحريم؛ فإذا شككنا في السبب المُبيح رجعنا إلى الأصل.
قال ابن العربي المالكي: «قال علماؤنا: الأصل في الحيوان التحريم، لا يحل إلا بالذكاة والصيد؛ فإذا ورد الشك في الصائد والذابح بقي على أصل التحريم»(3).
وقال النووي: «فيه بيان قاعدة مهمة، وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان لم يحلَّ؛ لأن الأصلَ تحريمه، وهذا لا خلاف فيه»(4).
وقال ابن دقيق العيد: «إن الأصلَ التحريمُ في الميتة، فإذا شككنا في السبب المُبيح رجعنا إلى الأصل، وكذلك إذا شككنا أن الصيدَ مات بالرمي أو لوجود سببٍ آخر يجوز أن يحال عليه الموت لم يَحِلَّ»(5).
قال ابن قُدامة المقدسي: «الأصل الحظر، والحِلُّ موقوفٌ على شرطٍ وهو تذكية من هو من أهل الذكاة أو صيده»(6).
وقال ابن تيميَّة: «والذي عليه عوامُّ أهل العلم أن التحريمَ يقتضي الفساد؛ وذلك لأن الفروجَ محظورة قبل العقد، فلا تُباح إلا بما أباحها الله سبحانه من النكاح أو الِملك، كما أن اللحوم قبل التذكية حرام، فلا تُباح إلا بما أباحه الله من التذكية، وهذا بيِّن»(7).
ومن الأدلة على أن الأصلَ في الأطعمة الحِلُّ ما يلي:
• قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 168]
• وقوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]، و{مَا} اسم موصول، والاسم الموصول يُفيد العمومَ، كما أنه أكَّد ذلك العمومَ بقوله: {جَمِيعًا} فكلُّ ما في الأرض فهو حلالٌ لنا، أكلًا وشربًا ولبسًا وانتفاعًا، ومن ادعى خلاف ذلك فهو محجوجٌ بهذا الدليل، إلا أن يُقيم دليلًا على دعواه.
• وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32] وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [يونس: 59، 60] فأنكر الله عز و جل على الذين يحرمون ما أحل الله مِن رزقه بغير برهان من الله.
الأصل في ذبائح المسلمين وذبائح أهل الكتاب الحِلُّ حتى يثبت ما يقتضي التحريم:
ولا تتنافى القاعدة «تحريم اللحوم في الأصل» مع هذه القاعدة، وهي أن الأصلَ في ذبائح المسلمين وذبائح أهل الكتاب الحِلُّ، وأن تحمل ذبائحهم على أصل الصحة والسلامة إلى أن يثبت العكس؛ فقد أجمع المسلمون على حِل ذبائح أهل القبلة، ولم يشترط أحدٌ وجوبَ معاينة طريقتهم في الذبح، أو مشاهدة تسميتهم على الذبائح، إلا إذا ثبت عن ذبيحة بعينها أن ذابحها قد أتى بما ينقض عقد إسلامه، أو أنه أخلَّ متعمدًا بالشروط الشرعية للتذكية، أو وقعت شبهة معتبرة في شيء من هذه الشروط. وكذلك الحال بالنسبة لذبائح أهل الكتاب.
والمعول عليه في ذلك ما يدينون به في باب الذبائح لمن عُرف عنهم التديُّن في هذا الباب كاليهود، أو القانون السائد في هذه الدول، فإن كان القانون العام يشترط إنهارَ الدم على النحو الذي تحدث به التذكية، ويعتبر ذلك من السياسات الصحية المُلزِمة في باب الذبائح، فهذا يكفي للحكم على ذبائحهم بالحِلِّ، إلى أن يثبت عن ذبيحةٍ بعينها أو عن مذبح بعينه أنه قد تخلفت فيه هذه الشروط.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز :: «فاللحوم التي تُباع في أسواق الدول غير الإسلامية، إن علم أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حِل للمسلمين، إذا لم يعلم أنها ذُبحت على غير الوجه الشرعي؛ إذ الأصل حِلُّها بالنص القرآني، فلا يُعدَل عن ذلك إلا بأمرٍ مُتحقَّقٍ يقتضي تحريمَها، أما إن كانت اللحوم من ذبائح بقية الكفار فهي حرام على المسلمين، ولا يجوز لهم أكلها».
وقد نص قرارُ المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن الذبائح على أنه «يجوز للمسلمين الزائرين لبلادٍ غير إسلامية أو المقيمين فيها، أن يأكلوا من ذبائح أهل الكتاب ما هو مباحٌ شرعًا، بعد التأكد من خلوِّها مما يُخالطها من المحرمات، إلا إذا ثبت لديهم أنها لم تُذكَّ تذكيةً شرعيةً»، فجعل الأصل هو الحِلُّ حتى يثبتَ العكس.
الأصل في ذبائح الدول الشيوعية والوثنية والتي لا تدين بدين سماوي الحرمة حتى يثبت ما يقتضي الإباحة:
وعلى النقيض من القاعدة السابقة، فإن الأصلَ في ذبائح الدول التي لا تدين بدين سماوي أنها لا تحل، إلى أن يثبت عن ذبيحةٍ بعينها أن من تولى ذبحها من المسلمين أو من أهل الكتاب، أو عن مسلخ بعينه أن القائم عليه والمباشر للذبح فيه من المسلمين أو من أهل الكتاب، إعمالًا لقاعدة الظاهر، وبناءً للحكم على الأعم الأغلب، وإقامة الظن الغالب مقام اليقين، وهو الشأن في الأحكام الشرعية أنها تُبنى على الأعم الأغلب ولا تُبنى على القليل النادر.
وقد نص قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن الذبائح على أنه «اللحوم المستوردة من بلادٍ غالبيةُ سُكَّانها من غير أهل الكتاب محرمة؛ لغلبة الظن بأن إزهاق روحها وقع ممن لا تحل تذكيته»، فجعل الأصلَ هو الحرمة حتى يثبت العكس؛ ولهذا استثنى فقال: «اللحوم المستوردة من البلاد المشار إليها في البند (ب) من هذه الفقرة إذا تمت تذكيتُها تذكيةً شرعيةً تحت إشراف هيئة إسلامية معتمدة، وكان المُذكِّي مسلمًا أو كتابيًّا فهي حلال». والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) جاء في «أحكام القرآن لابن العربي» المالكي (2/34-35): «وقال علماؤنا: الأصل في الحيوان التحريم ، لا يحل إلا بالذكاة والصيد ، وهو مشكوك فيه فبقي على أصل التحريم».
وجاء في «المجموع» من كتب الشافعية (9/20-29): «الأصل في الحيوان التحريم، فإذا أشكل بقي على أصله».
وجاء في «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي «وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا يحل إلا بيقين حِلِّه من التذكية والعقد، فإن تردَّد في شيء من ذلك لظهور سببٍ آخر رجع إلى الأصل فبُني عليه، فيُبنى فيما أصله الحرمة على التحريم؛ ولهذا نهى النبيُّ عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثرَ سهمٍ غير سهمه أو كلبٍ غير كلبه أو يجده قد وقع في ماء، وعلل بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره».
(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الذبائح والصيد» باب «الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة» حديث (5485)، ومسلم في كتاب «الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان» باب «الصيد بالكلاب المعلمة» حديث (1929).
(3) «أحكام القرآن لابن العربي» (2/34-35).
(4) «شرح صحيح مسلم» (13/78).
(5) «إحكام الأحكام» (2/288).
(6) «المغني» (9/375).
(7) «الفتاوى الكبرى» (6/229-232).